ريا وسكينة
بقلم سوزان عابد
تعد جريمة ريا وسكينة من أشهر الجرائم التي هزت المجتمع السكندري في عشرينيات القرن الماضي.. تناولتها أفلام السينما وعالجتها بأكثر من طريقة، وقدمت على خشبة المسرح ونالت إعجاب ودهشة المشاهدين.. حصل الجناة الحقيقيين على لقب أشهر ثنائي في تاريخ الجريمة في مصر “ريا وسكينة”، وهي الجريمة الأولى التي نفذ فيها حكم الإعدام على النساء في مصر.
قضية شهيرة تناولتها الصحف بالتشويق والإثارة، واحتار رجال الشرطة في الجناة إلى أن شاء القدر أن ينكشف سترهم عندما أراد أحد أصحاب العقارات التي سكنت بها إحدى الأختين أن يقوم بعمل صرف صحي للحجرة، وأثناء الحفر تم العثور على جثة آدمية فقام بإبلاغ الشرطة بالأمر، وتم البحث وراء الحادث فانكشفت خيوطه مشيرة إلى ريا وسكينة حتى افتضح الأمر، واعترف الجناة بتفاصيل قتل السيدات لسرقة مصاغهم وحليهم.
جريمة راح ضحيتها 17 سيدة من الإسكندرية.. تبدأ أحداثها في شهر يناير من عام 1920 عندما تقدمت السيدة زينب حسن ببلاغ إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن اختفاء ابنتها نظلة أبو الليل البالغة من العمر 25 عامًا في ظروف غامضة، وأشارت السيدة إلى أن هناك سيدة تدعى ريا كانت قد أرسلت ابنتها بديعة لطلب نظلة.. وباستجواب ريا عن الاتهام أقرت بما قالته السيدة، ولكنها نفت ذهاب نظلة إليها.. راوغت ريا وهربت من الاتهام الأول الذي كان من الممكن أن يحمي حياة الضحايا والأبرياء من النساء الذين انتهى مصيرهم على يد السفاحة ريا وأعوانها.. ثم جاء البلاغ الثاني والثالث والرابع وما تلاهم من بلاغات أشارت فيها أصابع الاتهام مرة إلى ريا والأخرى إلى أختها سكينة، ولكن بمهارة شديدة من الأختين لم يفتضح أمرهما بسهولة إلا عندما أراد صاحب العقار الذي سكنته سكينة في فترة ما أن يمد الصرف الصحي إلى المنزل كما سبق وذكرنا.. وهنا تم العثور على الخيط الأول من الجريمة، وافتضح أمر ريا وسكينة ليصبحا صاحبتَي أشهر جناية في تاريخ مصر الجناية 43 لسنة 21 اللبان.
أخر ضحايا ريا وسكية
تنوعت أماكن الجرائم بين 5 شارع ماكوريس و38 شارع علي بك الكبير و6 و8 حارة النجاة.. وفي كل بيت عثروا على أكثر من جثة لسيدات في أعمار مختلفة.
لم تكن قضية ريا وسكينة مجرد حادث عابر في تاريخ المجتمع المصري بصفة عامة، والسكندري بصفة خاصة على قدر كونها قضية هزت عادات المجتمع وتقاليده، فقبل الكشف عن خيوط الجريمة كانت كل الاحتمالات القائمة وراء اختفاء السيدات تدور حول سوء سلوكهن، وكانت الشائعات تنال من أهل السيدة المختفية بشكل مبالغ فيه، لاسيما وأن أفراد الطبقة المتوسطة والدنيا من أفراد المجتمع كانوا يعانون من أزمات اقتصادية بالغة كنتيجة طبيعية إثر تأثر الاقتصاد العالمي بالحرب العالمية الأولى التي انتهت عام 1918، وإعلان الحماية البريطانية على مصر، وما تبع ذلك من أثر واضح على الاقتصاد المصري. كل ذلك مَثَّل أسبابًا قوية في نظر بعض رجال الشرطة وأفراد المجتمع في تحليلهم لظاهرة اختفاء السيدات فالفقر قد يكون عاملاً قويًّا وراء هروب السيدات من أزواجهم، أو بحثًا عن حياة أفضل وكسب الرزق بطرق غير شرعية، خاصة وأن صاحب محل الذهب الذي تتعامل معه ريا كان يتقاسم معهم في قيمة المصوغات فلم يكن أمام رجال الشرطة دليل واحد وراء السيدات المختفيات، فلو عثروا على مصاغهم لشكوا في إمكانية سرقتهم أو مقتلهم وزاد اللغز تعقيدًا، أمر هام هو عدم العثور على أي جثة للسيدات المختفية .. وقد أبعد ذلك تفكير المباحث عن فكرة مقتل السيدات، وسلط الأضواء على فكرة الاختفاء أو الهروب مع أحد الأصدقاء من الرجال، أو لانحرافهن.. ولكن ما هي إلا شهور واختفت سيدة كبيرة في السن تعمل بائعة للقماش ومستلزمات العروس وهنا انتفت فكرة الهروب أو الانحراف، ولحقت بها سيدة متزوجة وموفقة في حياتها الزوجية مما زاد الأمر صعوبة، وهنا بدأ الضغط على رجال المباحث واتهامهم بالتخاذل والتهاون في أرواح نساء الإسكندرية، وتناثرت الشائعات، وساد الرعب بين الأهالي حتى أنهم منعوا النساء من الخروج، وبدأت المباحث تتأكد من أن وراء تلك الحوادث المتلاحقة عصابة تقوم بخطف السيدات، ولكن لم يكن هناك دليل واحد يثبت صحة هذا الافتراض حتى انكشف الأمر، وافتضح سترهم.
عبد العال وحسب الله زوجا ريا وسكينة
لم تكن ريا وسكينة هما المنفذتان لتلك الجرائم، بل اقتصر دورهم على جلب النساء لاسيما من الأسواق وبالتحديد من “زنقة الستات” أشهر الأسواق في الإسكندرية الخاص ببيع الأقمشة وكل المستلزمات الأخرى من أدوات تطريز وعباءات وجلابيب.. كانت ريا تقوم بدورها بإتقان تتجول داخل السوق حتى تقع عينها على الضحية التي لابد وأن تكون مطابقة للمواصفات التي حددتها العصابة وهي كثرة المصاغ والحلي ليس أكثر.. ولم يقتصر الأمر على اصطياد الضحايا من الأسواق، بل امتد لمعارفهم وجيرانهم من النساء اللاتي يرتدين المصوغات بكثرة، وما إن تصل الضحية إلى المنزل موضع تنفيذ الجريمة حتى يظهر رجال ريا وسكينة حسب الله وعبد العال وعبد الرازق وعرابي وينقضوا على الضحية حتى تقطع النفس وتتم عملية الدفن داخل الحجرة وينتهي الأمر بذهاب ريا وسكينة للصائغ لبيع المصوغات واقتسام المال فيما بينهم.
كان حكم القضاء العادل بإعدام الجناة بمثابة الماء الذي أطفأ نار أهالي الضحايا لاسيما إعدام ريا وسكينة والذي جاء في حيثيات الحكم تعليقًا على فكرة إعدامهن هو أن الإعدام الآن يتم داخل السجون فلا مانع من تنفيذ حكم الإعدام في السيدات. وبالفعل نفذ الحكم في يومي 21 و22 ديسمبر عام 1921، وأسدل الستار عن تلك الجرائم البشعة التي شهدتها مدينة الإسكندرية، وأودعت الطفلة بديعة ابنة ريا في إحدى دور الرعايا، وسرعان ما توفيت هناك بعد ثلاث سنوات، فقد شاءت قدرة الله أن ينقطع نسل الجناة جميعًا فلم يعش لريا ولد واحد من خمسة ولدتهم وماتوا فور ولادتهم حتى الطفلة التي عاشت لها توفيت بعد إعدامهم بسنوات حتى لا يبقى لهم أثر في التاريخ إلا من خلال الوثائق والأوراق. ومن الطريف اختفاء اسم ريا من سجلات المواليد منذ عام 1922 فمن الأب الذي يجرؤ على أن يطلق اسم ريا على ابنته؟!