غناء الطفل
عبد المجيد إبراهيم قاسم
كانت الموسيقى لغة البشرية الأولى، وتملَّك الانسان لغة الإيقاع حتى قبل أن يتعلَّم الكلام، وأخذ يطوِّر أصوات المخلوقات من حوله حتى جعل منها غناءً.
(قد جاء هذا الشكل من الفنون نتيجة لجهود واعية قام به الإنسان ليعبِّر به عن نفسه، وعن ألوان الأحاسيس التي يمتلكها، عندما تعجز اللغة العادية عن التعبير ؛ سواءً في لحظات إثارته أو لحظات نشوته)(1).
ويقول الباحث "يوسف السيسي" (تمثِّل الموسيقى قطاعاً رئيسياً في حضارة الانسان، وهي تتشكَّل بالتبعية وفقاً لملامح كل عصر وفكره، وأحاسيسه، ووفقاً لملامح كل بيئة ولقد اعتبر أفلاطون الفن الموسيقي أحد المحركات الرئيسية السامية للبشر، وبأنها قد خدمت البشرية في تحقيق التوحُّد في أحاسيس البشر، ومختلف عناصر الحياة في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة وتمكَّنت من التعبير عن الفرد وعن الجماعة، في تنسيق ووحدة) (2).
وكما هو الغناء والموسيقى فطرة مارسها الإنسان منذ وجوده، فهو بالنسبة للطفل لعبٌ يقوده إلى فهم الطبيعة واكتشاف مكوّناتها، ويمتلك من المقدرة التأثيرية عليه ما قد لا يمتلكه أيُّ نوع من أنواع الفنون الأخرى، ليشمل هذا التأثير حتى الأطفال الرضع كما يقول "جلين ويلسون": (كما توجد بدايات الأثر الخاص بالإيقاع في خبرة الجنين المبكرة بضربات قلب أم، ويبدو أن الموسيقى بنبضها المماثل لدقات قلب الأم / حوالي 72 دقّة في الدقيقة / لها الأثر الملطِّف نفسه في الأطفال الرضع) (3).
كما أن الغناء وسيلة تربوية هامة، تؤثر في سلوك الطفل، فتغرس فيه قيماً خُلقية جميلة وتطوِّر ملكاته وتُعينه في التعبير عما يجول في أعماقه بدون رقابة، كما أنه يُسهم في الارتقاء بانفعالاته والسمو بتذوقه الجمالي، ويساعده على التواصل مع المحيط بنفسية أكثر انفتاحاً، ويغرس في أعماقه روح المبادرة الإيجابية ويسقي بذور المحبة فيها بالإضافة إلى الغناء يربي في الطفل الحسِّ الإنساني، ويوسِّع مدى ثقافته ومهاراته، ويزيد من معارفه، كما أنه يحرِّك أحاسيسه الراكدة ويمنعها من التعثر بمثالب الكبت والتقوقع ويمنحها التجدُّد والانطلاق. فالغناء يمكِّن الطفل من إيجاد توازن عاطفي، فيجد نفسه مع الغناء هائماً في أجواء ترتاح فيها نفسه، وفي عالمٍ يسعى إليه خياله، أما الامتناع عن تغذية النفس الطفلية بعذوبة الغناء، فمن شأنه أن يزرع الفتور في علاقة الطفل بالحياة، وأهمية الغناء والترديد بالنسبة له لا تقل عن أهمية الشعر، وسماع القصص وأداء الأدوار التمثيلية، إن لم يتجاوزها. يقول "الإمام الغزالي": (حرمان الصغير من الترديد يُميت قلبه، ويخمد ذكاءه)(4).
(تعتبر طريقة الموسيقي الألماني "كارل أورف" الإيقاعية أهم مدارس التلحين للأطفال في العالم، وتأتي هذه الأغنية ليستمع إليها الطفل ويردِّدها ويحفظها، وهي إما أن يردِّدها الأطفال بأنفسهم، أو يردِّدها لهم الكبار)(5). وحتى تكون هذه الأغنية ناجحة لابدَّ لها من شروط معيَّنة، لضمان تحقق أهدافها المرجوّة، ولكي تسمح لنا بدخول عالم الطفل، وأهم هذه الشروط هي أن نحسن اختيار اللحن والكلمة، فاللحن الموسيقي العذب يداعب الوجدان ويلامس شغاف قلوب الأطفال، والكلمة الرشيقة المغناة تحاكي الحدس، فيجب أن يكون اللحن سلساً مستساغاً من قِبل الطفل مدغدغاً لأحاسيسه، وأن يمتلك السِّحر الخاص في مخاطبته، مُوقظاً لنواحي الخير والجمال في نفسه، ليحلِّق الطفل معها في فضاءاتٍ رحيبة، ويتمايل على إيقاعها الهادئ والعذب، كالغصن الغضّ عندما يداعبه نسمات الربيع المنعشة.
أما الكلمة فيجب أن تمتاز بالعذوبة والسهولة والوضوح، لتكون أقرب إلى مشاعر الطفل وإلى قلبه، وأن تتصل فكرتها بشيء يمسُّ اهتماماته، وأن تحمل قيمةً إيجابية ولكن بعيدة عن المباشرة. وإذا كان الغناء منفذاً للتعبير عن مكنونات المفردة، فلا بدَّ على الشاعر أن يجتهد في صياغة كلمات الأغنية وأن يختارها من بيئة الطفل، ويمنحها الإحساس الدافئ والمدلول الصادق ليغرف الطفل من ينابيعها ما يشاء، ثم أن تكون الكلمة والصورة واضحة، لأن الكلمة ستُسهم إثراء الذاكرة اللغوية للطفل، والصورة في تكوين الخيال الخصب، كما أن الأغنية تدرِّبه على إجادة النطق، وتعلُّم مخارج الحروف، وإضافة إلى اللحن والكلمة يمكن أن نذكر من الشروط:
الوزن المبسَّط للقصيدة المُغناة، والجملة الموسيقية القصيرة، والإيقاع الرشيق، إضافة إلى أنه يجب أن يكون زمن الأغنية قصيراً، حتى لا ترهق أنفاس الطفل، ومن المفيد أيضاً أن يصاحب الغناء بعض الحركات الإيمائية المنظَّمة ؛ لأنها تمنح الطفل الحرية الداخلية. وبهذه الشروط نكون قد ضمنّا نجاح الأغنية، وساهمنا في إعداد الطفل المنطلق، والمنفتح والمؤهل للقيام بدوره في مجتمعه مستقبلاً.
فالغناء هو الفن الأكثر قرباً وتأثيراً في نفس الطفل لانسجامها مع شخصيته المجبولة على المرح والرغبة في التعبير، فما أن يسمع لحناً وصوتاً حسناً حتى يبدأ بالاستماع والتصفيق.
-------
الهوامش:
/
2) "سلسلة عالم المعرفة الكويتية" - العدد / 46 / - دعوة إلى الموسيقى - ص / 9 /
3) "عالم المعرفة الكويتية" - العدد / 258 / - سيكولوجية فنون الآداب - تأليف "جلين ويلسون" - ترجمة د. "شاكر عبد الحميد" - ص / 55 /.
4) "تنمية ثقافة الطفل" - "عبد التواب يوسف" ص / 199 /.
5) "الموقف الأدبي" - / 400 / أب / 2004 / - أغنية الطفل في سوريا التأسيس والتأصيل - "أحمد بوبس" ص / 85 - 89 /.
عبد المجيـد إبراهيـم قاسـم – (غناء الطفل)-
عبد المجيد إبراهيم قاسم
كانت الموسيقى لغة البشرية الأولى، وتملَّك الانسان لغة الإيقاع حتى قبل أن يتعلَّم الكلام، وأخذ يطوِّر أصوات المخلوقات من حوله حتى جعل منها غناءً.
(قد جاء هذا الشكل من الفنون نتيجة لجهود واعية قام به الإنسان ليعبِّر به عن نفسه، وعن ألوان الأحاسيس التي يمتلكها، عندما تعجز اللغة العادية عن التعبير ؛ سواءً في لحظات إثارته أو لحظات نشوته)(1).
ويقول الباحث "يوسف السيسي" (تمثِّل الموسيقى قطاعاً رئيسياً في حضارة الانسان، وهي تتشكَّل بالتبعية وفقاً لملامح كل عصر وفكره، وأحاسيسه، ووفقاً لملامح كل بيئة ولقد اعتبر أفلاطون الفن الموسيقي أحد المحركات الرئيسية السامية للبشر، وبأنها قد خدمت البشرية في تحقيق التوحُّد في أحاسيس البشر، ومختلف عناصر الحياة في المجتمع الواحد، وبين المجتمعات المختلفة وتمكَّنت من التعبير عن الفرد وعن الجماعة، في تنسيق ووحدة) (2).
وكما هو الغناء والموسيقى فطرة مارسها الإنسان منذ وجوده، فهو بالنسبة للطفل لعبٌ يقوده إلى فهم الطبيعة واكتشاف مكوّناتها، ويمتلك من المقدرة التأثيرية عليه ما قد لا يمتلكه أيُّ نوع من أنواع الفنون الأخرى، ليشمل هذا التأثير حتى الأطفال الرضع كما يقول "جلين ويلسون": (كما توجد بدايات الأثر الخاص بالإيقاع في خبرة الجنين المبكرة بضربات قلب أم، ويبدو أن الموسيقى بنبضها المماثل لدقات قلب الأم / حوالي 72 دقّة في الدقيقة / لها الأثر الملطِّف نفسه في الأطفال الرضع) (3).
كما أن الغناء وسيلة تربوية هامة، تؤثر في سلوك الطفل، فتغرس فيه قيماً خُلقية جميلة وتطوِّر ملكاته وتُعينه في التعبير عما يجول في أعماقه بدون رقابة، كما أنه يُسهم في الارتقاء بانفعالاته والسمو بتذوقه الجمالي، ويساعده على التواصل مع المحيط بنفسية أكثر انفتاحاً، ويغرس في أعماقه روح المبادرة الإيجابية ويسقي بذور المحبة فيها بالإضافة إلى الغناء يربي في الطفل الحسِّ الإنساني، ويوسِّع مدى ثقافته ومهاراته، ويزيد من معارفه، كما أنه يحرِّك أحاسيسه الراكدة ويمنعها من التعثر بمثالب الكبت والتقوقع ويمنحها التجدُّد والانطلاق. فالغناء يمكِّن الطفل من إيجاد توازن عاطفي، فيجد نفسه مع الغناء هائماً في أجواء ترتاح فيها نفسه، وفي عالمٍ يسعى إليه خياله، أما الامتناع عن تغذية النفس الطفلية بعذوبة الغناء، فمن شأنه أن يزرع الفتور في علاقة الطفل بالحياة، وأهمية الغناء والترديد بالنسبة له لا تقل عن أهمية الشعر، وسماع القصص وأداء الأدوار التمثيلية، إن لم يتجاوزها. يقول "الإمام الغزالي": (حرمان الصغير من الترديد يُميت قلبه، ويخمد ذكاءه)(4).
(تعتبر طريقة الموسيقي الألماني "كارل أورف" الإيقاعية أهم مدارس التلحين للأطفال في العالم، وتأتي هذه الأغنية ليستمع إليها الطفل ويردِّدها ويحفظها، وهي إما أن يردِّدها الأطفال بأنفسهم، أو يردِّدها لهم الكبار)(5). وحتى تكون هذه الأغنية ناجحة لابدَّ لها من شروط معيَّنة، لضمان تحقق أهدافها المرجوّة، ولكي تسمح لنا بدخول عالم الطفل، وأهم هذه الشروط هي أن نحسن اختيار اللحن والكلمة، فاللحن الموسيقي العذب يداعب الوجدان ويلامس شغاف قلوب الأطفال، والكلمة الرشيقة المغناة تحاكي الحدس، فيجب أن يكون اللحن سلساً مستساغاً من قِبل الطفل مدغدغاً لأحاسيسه، وأن يمتلك السِّحر الخاص في مخاطبته، مُوقظاً لنواحي الخير والجمال في نفسه، ليحلِّق الطفل معها في فضاءاتٍ رحيبة، ويتمايل على إيقاعها الهادئ والعذب، كالغصن الغضّ عندما يداعبه نسمات الربيع المنعشة.
أما الكلمة فيجب أن تمتاز بالعذوبة والسهولة والوضوح، لتكون أقرب إلى مشاعر الطفل وإلى قلبه، وأن تتصل فكرتها بشيء يمسُّ اهتماماته، وأن تحمل قيمةً إيجابية ولكن بعيدة عن المباشرة. وإذا كان الغناء منفذاً للتعبير عن مكنونات المفردة، فلا بدَّ على الشاعر أن يجتهد في صياغة كلمات الأغنية وأن يختارها من بيئة الطفل، ويمنحها الإحساس الدافئ والمدلول الصادق ليغرف الطفل من ينابيعها ما يشاء، ثم أن تكون الكلمة والصورة واضحة، لأن الكلمة ستُسهم إثراء الذاكرة اللغوية للطفل، والصورة في تكوين الخيال الخصب، كما أن الأغنية تدرِّبه على إجادة النطق، وتعلُّم مخارج الحروف، وإضافة إلى اللحن والكلمة يمكن أن نذكر من الشروط:
الوزن المبسَّط للقصيدة المُغناة، والجملة الموسيقية القصيرة، والإيقاع الرشيق، إضافة إلى أنه يجب أن يكون زمن الأغنية قصيراً، حتى لا ترهق أنفاس الطفل، ومن المفيد أيضاً أن يصاحب الغناء بعض الحركات الإيمائية المنظَّمة ؛ لأنها تمنح الطفل الحرية الداخلية. وبهذه الشروط نكون قد ضمنّا نجاح الأغنية، وساهمنا في إعداد الطفل المنطلق، والمنفتح والمؤهل للقيام بدوره في مجتمعه مستقبلاً.
فالغناء هو الفن الأكثر قرباً وتأثيراً في نفس الطفل لانسجامها مع شخصيته المجبولة على المرح والرغبة في التعبير، فما أن يسمع لحناً وصوتاً حسناً حتى يبدأ بالاستماع والتصفيق.
-------
الهوامش:
/
2) "سلسلة عالم المعرفة الكويتية" - العدد / 46 / - دعوة إلى الموسيقى - ص / 9 /
3) "عالم المعرفة الكويتية" - العدد / 258 / - سيكولوجية فنون الآداب - تأليف "جلين ويلسون" - ترجمة د. "شاكر عبد الحميد" - ص / 55 /.
4) "تنمية ثقافة الطفل" - "عبد التواب يوسف" ص / 199 /.
5) "الموقف الأدبي" - / 400 / أب / 2004 / - أغنية الطفل في سوريا التأسيس والتأصيل - "أحمد بوبس" ص / 85 - 89 /.
عبد المجيـد إبراهيـم قاسـم – (غناء الطفل)-