أحلامنا... قراءة في سيكولوجية الشخصية
هنادي الشوا
لعل الخطأ الأكبر الذي ارتكبه علماء النفس والانتربولوجيا هو في تغييبهم القصدي لمدلولات الأحلام من دراساتهم، لتقع تلك المدلولات فريسة بين أيادي المرتزقة من مشعوذين وسحرة، فيتاجروا بها بعدة مسميات مثل:
اكشف طالعك، هل تبحث عن نصفك الآخر؟، والكثير من أشكال الاستخفاف بالعقل البشري والتي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة لا ُتحتمل...
إن هذا التغييب القصدي لدراسة مدلولات الأحلام أدى إلى ضمور في دراسة العلاقة الحقيقية بين الأحلام وديناميات الشخصية، لكن ولكي نكون موضوعيين في طرحنا لهذه القراءة فإنه من الأمانة بمكان أن نلتمس لعلم النفس وبعض من مزاوليه العذر في ذلك فالناس حقيقةَ تتقبل فكرة سيكولوجية الذات أكثر من تقبلها لسيكولوجية اللاشعور.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لايمكننا أن ننكر، بحال من الأحوال، الجدوى التي حققها ذاك التغييب القصدي للتفسير الحلمي على صعيد الحدَ من الفوضى التفسيرية لعالم الأحلام. فكم من شخص بلا عمل راح يؤلف الكتب في تفاسير الأحلام لتراها على أرصفة الشوارع؟ وترى النساء والرجال والشباب يقبلون بشغف على تفسير أحلامهم! فلماذا هذا الاهتمام؟ أهو من باب التسلية أم أن أحلام المواطن العربي باتت بحاجة إلى تفسير فعلاَ نظراَ لما يعانيه في يومياته على ارض الواقع؟ وهنا يصبح الحلم متنفسه الوحيد بأن غداَ أفضل ينتظره.
ولا نريد أن يفهم البعض أن تناول موضوع الأحلام في دراسة سيكولوجية الشخصية هو للمتعة أو لرفض أو مغالطة اتجاه ما، مايهمنا كباحثين في سيكولوجية الشخصية هو دراسة تأثير الأحلام على شخصية صاحبها.
على سبيل المثال يحق لنا أن نتساءل لماذا يصحو بعض الناس من النوم ويتوجهون توجهاً معيناً بوحي الحلم؟ كم من شخص استشعر السريرة والتوازن النفسي بعد حلم جميل؟ وهنا لا يخفى على أحد منا أن الكثير من الأساطير والشعر الملحمي والإنتاج الفكري القومي هو من وحي الأحلام ألم يكن تعيين النبي يوسف بناء على حلم؟ ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن تكون الأحلام برمتها قابلة للتصديق أو التحقيق وإلا كيف لنا أن نصدق أن الشمس والقمر كانا ساجدين له؟ إذاً القضية لا تكمن في تفسير الحلم وإنما كيف يبرمج بعض الناس حياتهم بعد الحلم؟ في حين لا يؤثر في الآخر مايرونه بل على العكس يفسرونه بالضد.
باختصار ما يهمنا في أبحاث الشخصية لم يكن على الإطلاق حرفية الحلم وإنما رمزية الحلم ومحتواه الباطن وآلية التعامل معه أي ردود فعل الشخص صبيحة اليوم التالي لحلم مزعج أو ُمفرح...
لنأخذ أحلام اليقظة على سبيل المثال أليست وسائل دفاع أولية يمكننا من خلالها أن نحقق في الحلم ما عجزنا عنه في الواقع؟ فكم من طفل يتعرض للتقريع من أحد فيتخيل نفسه في أحلام اليقظة بطلاً ينهال على خصمه بالضرب.
فكيف نأخذ هذه الوسيلة الدفاعية بالتفسير رغم أنها لا تعدو عن كونها تخيلاً حلماً في حين أننا نرفض الأخذ بحرفية الحلم؟
السبب وببساطة لأن "الأنا" هنا قد تدخلت في أحلام اليقظة وبالتالي فهناك جانباً واقعياً من الحلم كما أننا قد نلاحظ ردود فعل من جانب المنظومة الحسية والحركية كأن يركل الطفل أو يعرَق من شدة التوتر أو قد يضحك أو يصرخ ولكن ما الذي سيحصل لو كان هذا الطفل شديد الحساسية وغير ناضج انفعالياً أو لم تتح له فرصة التخيل؟ إنه بلا شك سيهرع إلى غرفته باكياً ولنفرض جدلاَ أن هذا الطفل ومن إثر بكائه تمكن منه النوم فحلم ذات الحلم الذي افترضناه في حالة اليقظة فماذا يمكننا أن نسمي هذا الحلم؟ وهل ساهم حلمه ذاك الحلم في التنفيس عن رغبة الطفل؟ وهل يعبر عن رغبة لديه برد اعتباره لذاته أو هل يعكس تقديره لذاته أم سنقول أنه ضغث حلم؟ والكثير من التساؤلات التي قد تخطر ببالنا كمحاولات منطقية لفهم آلية تجُسد الحلم.
إن القضية تُقاس بهذه البساطة فشحوب الطفل أئناء نومه أو توَرد وجنتيه أو تعرقه هي بلا شك ردود فعل فيزيولوجية ما كان لها أن تكون لو لم تتلقى أوامرها من الجهاز العصبي.
إذاً ليست أحلام ن هذا الحلم اليقظة فقط وسائل دفاعية بل الأحلام برمتها قد تكون وسائل دفاعية وذلك حسب تكوين الشخصية ونمط التربية والدليل على ذلك سؤالنا حول طبيعة أحلام بعض المشاهير سيكشف بما لا يرقى إليه الشك أن واقعهم كان ربما جزءاَ من تخيلاتهم وطموحاتهن.
ألم تكن توجهات موسوليني للسياسة لأنه نشأ يسمع لأبيه ولتفسيره للحلم الذي رآه؟
وما يؤكد أن الأحلام رمزية ولست حرفية هو حلم سيدنا إبراهيم وكيف هم بقتل ابنه إسماعيل لأنه حاول تنفيذ الحلم حرفياً فجاء عيد الأضحى تفسيراً رمزياً لحلم سيدنا إبراهيم.
في الأحلام عادة ما نكون على سجيتنا ونعبر عن أنفسنا بتلقائية فالحلم لا يراعي الأصول الاجتماعية، وهو وسيلة إسقاطيه نمارس فيه الخيال خيالاً ليس فيه إعمال كما في ممارسة الكتابة، والحالم في حلم النوم ليس كالحالم في حلم اليقظة لأن حلم اليقظة يتجه إلى الحاضر ويقدم مشاهد خيالية لأجواء مستقبلية أما حلم النوم ففيه التوجهات للماضي والمستقبل.
يمكننا القول أن الحلم يعطي روحاً جديدة لرغباتنا التي لم تتحقق في الماضي، أو التي ننشدها في الحاضر، كما وقد يشكل تصورات جديدة لمستقبلنا، وأخيراً يقوم الحلم بمهمة تنظيمها في بناء درامي فريد فتصبح أحلام كل منا جزءاً لاينفصل بحال من الأحوال عن شخصيته وكأن الأحلام هي تابلوهات متتابعة لدراما واحدة.
هل الأحلام صور عقلية لأفكار اليقظة؟
إن الأحلام مثل اللغة فاللغة تُجسَد الأفكار في حالة اليقظة، بينما الصور تُجسَدها بالأحلام، والدليل يكمن في التساؤل التالي: لماذا تظهر أفكارنا في النهار صورٌ حلمية ألا يعني ذلك أن لغة الفكر المرئية قد تكون صورة في الحلم؟
مما لاشك فيه أن الهلوسة في اليقظة تشبه إلى حد كبير الهلوسة في الحلم، فنحن نستيقظ أحياناً ولدينا شعور بانزعاج عضوي كأن نحسً مثلاَ بثقل في الرأس، أو باختناق وكل ذلك لكوننا متأثرين بصورةٍ حلمية استدعت تلك الاستجابة الفيزيولوجية التي تحدث نفسها أثناء اليقظة. فكم من شخص رأى أنه يقع فيصاب ويتألم في نومه ويُخيَل إليه أنه يحس بآلام في نفس المناطق التي تأذت في الحلم.
عندما نفكر في اليقظة فنحن نبحث عن تصوَر، وإن تصَور شيء ما أصله فكرة، فأنا لم أكن لأتصور أن أكتب هذا الموضوع لو لم أفكر فيه، وبالمقابل وأنا أفكر فيه كنت قد كونت تصوراً ذهنياً لما سأكتبه، وكيف سيتقبلَه القارئ، والكثير من التصورات التي كانت تجسيد لأفكار لم أكن لأتصورها لولا تفكيري فيها،
وعلى الرغم من كون المُدركات الحسية تشكَل مادتها الخام الأولى فأنا أفكر بتقبل الآخرين بكل حواسي، وكذلك يمكن أن تكون الأفكار على مستوى الذهن فقط، ومثال ذلك ما يحدث عندما نطلب من طفل ما أن يرسم لنا طبيعة وهو من سكان البادية مما لاشك في أن عناصر الفكرة التي طبعها على الورق هي ناتجة من أحد احتمالين الأول: في كون الطفل قد رأى منظراً للطبيعة فصَوره وحفظ الصورة البصرية في ذهنه فاستحضرها أو بضعاً منها حينما كان أبعد ما يكون عن الطبيعة. والاحتمال الثاني: أن هذه الصورة التي رسمها الطفل ليس لها نسخة مطبوعة في منظومته الحسية والإدراكية وإنما صورة ذهنية خالصة بالضرورة. وعليه فإن عملية طبع الصور البصرية واستحضارها إلى ساحة الشعور هي عملية ذات وجهين الأول إدراكي حسي والثاني إدراكي ذهني وأن هذا الأخير هو ما يحدد بدقة دور العقل في تشكل الصور الُحلمية من حيث مادة الحلم والتي هي عبارة عن تصوَر لفكرة كما تُطرح الفكرة في اليقظة في هيئة كلمات تفيد التواصل بين الناس.
وربما تتضح الصورة أكثر إذا حللنا معنى "التصعيد" وهو ميكانيزم دفاعي كأن نطلب مثلاً من شاب لم يمارس الجنس ولكنه يعي حكماً التغيرات الفيزيولوجية التي أثرت بدورها على جهازه النفسي وجعلته يشعر بجملة من الحاجات الملحة والتي وفي كثير من الأحيان لا يكترث لها وأحيانا أخرى لشدة إلحاحها تبدو مخيفة وذلك حسب قدرته على التصعيد أو بالأحرى حسب الأنا الأعلى وقدرته على التعامل مع التطورات الجديدة بواقعية لا بمثالية كما هي عادتها.
ما يحدث في التصعيد أن نطلب من هذا الشاب أن ينظم الشعر الغزلي الذي يتغنى بالمرأة ومفاتنها فهل سألنا أنفسنا لماذا لم نطلب منه أن يقرأ الشعر الملحمي، أو يؤلف الرواية، أو يقرأ في السياسة؟
الجواب ببساطة لأن الشعر الغزلي يمثَل تنفيس لصور ذهنية تتابع في لاشعوره تكون مادتها الخام المرأة وبالتالي التغني بجمال جسد المرأة يبقى أسمى من ارتكاب الفاحشة." وجهة نظر شخصية قد لا تكون مقبولة اجتماعياً، أو دينياً، ولكن إن جاز لنا أن نقيم وهذه ليست مهمتنا بطبيعة الحال فيبقى الشعر الذي يتغنى بمفاتن المرأة أسلم على الأقل من سلوك آخر يُعدً هو الآخر مرفوض حكماً "
لنعد إلى آلية أحلام اليقظة ولنفترض أن هذا الشاب لا يقرض الشعر أفلا تعتبر أحلام اليقظة سجلات مذكراته التي يسطَر عليها أخيلة عشقه وصور غرائزه المدفونة؟
وهذا هو صلب هذه النظرية فكل منا قد حباه الله بقدرات مختلفة منها الموسيقية ومنها الرياضية ومنها اللغوية الخ...
ومما لاشك فيه أن تنوع هذه القدرات هو الذي يُغني الحياة الإنسانية فكل منا ينفَس عن مكنوناته بطريقته الخاصة فعالم النفس مثلاً لا يوصل أفكاره عن طريق الرياضة ولا الرقص ولكن فحسب من خلال مخاطبة العقل، وتُقاس حسب هذا المعيار القدرات الفردية الموروثة أو المكتسبة محولة الأفكار في صعيد الذهن بما يشبه الإحيائية إلى أشياء واقعية محسوسة وما يبدو هو أننا نحمل في لاشعورنا الاستجابة برد فعل معين حيال مثير معين.
ويبقى السؤال الجوهري في هذا كله أين يكون العقل في صورنا الحُلمية؟
مما تقدم نجد أن الحلم شأنه شأن الإبداعات التي يقوم بها كل منَا في مجاله وتعتبر الفردية لدى كل واحد فينا هي مايُناط بها ترجمة تلك الأحلام وتجسيدها على هيئة محسوسات، من خلال آلية تحول أفكارنا الذهنية حول مواضيع معينة إلى مواد حسية، و عليه فإن الحلم في ذلك يشبه واقع هؤلاء المبدعين.
ففي الحلم نتصور، وتُصاغ تصوراتنا في شكل صور حقيقية، ومن هنا تأتي خصوصية الحلم لدى كل منا والدليل الأكبر في ذلك أن أحلامنا لا تتشابه، حتى وإن تشابهت إبداعاتنا وطرق تنميتها، فأحلامنا لن تتشابه ولو كان الواقع غير ذلك لرأينا للرسامين ذات الأحلام ولافترضنا أن كل المجرمين لم يروا يوما وروداً في أحلامهم، ومن ذلك كله يمكننا القول بان كل حلم من أحلامنا لا يخلو من إبداعاتنا وتفردًنا، وهو في ذلك يتقاطع إلى حد كبير مع اليقظة من حيث كينونة الرغبات في مادته الفكرية، هنا فقط يمكننا أن ندرك سبب تأويل الأحلام وكيف أنها بفعل التأويل تتحول من رمزية إلى حرفية في الوقت الذي تُعد فيه أصلاَ رمزية لا حرفية
هنادي الشوا
لعل الخطأ الأكبر الذي ارتكبه علماء النفس والانتربولوجيا هو في تغييبهم القصدي لمدلولات الأحلام من دراساتهم، لتقع تلك المدلولات فريسة بين أيادي المرتزقة من مشعوذين وسحرة، فيتاجروا بها بعدة مسميات مثل:
اكشف طالعك، هل تبحث عن نصفك الآخر؟، والكثير من أشكال الاستخفاف بالعقل البشري والتي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة لا ُتحتمل...
إن هذا التغييب القصدي لدراسة مدلولات الأحلام أدى إلى ضمور في دراسة العلاقة الحقيقية بين الأحلام وديناميات الشخصية، لكن ولكي نكون موضوعيين في طرحنا لهذه القراءة فإنه من الأمانة بمكان أن نلتمس لعلم النفس وبعض من مزاوليه العذر في ذلك فالناس حقيقةَ تتقبل فكرة سيكولوجية الذات أكثر من تقبلها لسيكولوجية اللاشعور.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لايمكننا أن ننكر، بحال من الأحوال، الجدوى التي حققها ذاك التغييب القصدي للتفسير الحلمي على صعيد الحدَ من الفوضى التفسيرية لعالم الأحلام. فكم من شخص بلا عمل راح يؤلف الكتب في تفاسير الأحلام لتراها على أرصفة الشوارع؟ وترى النساء والرجال والشباب يقبلون بشغف على تفسير أحلامهم! فلماذا هذا الاهتمام؟ أهو من باب التسلية أم أن أحلام المواطن العربي باتت بحاجة إلى تفسير فعلاَ نظراَ لما يعانيه في يومياته على ارض الواقع؟ وهنا يصبح الحلم متنفسه الوحيد بأن غداَ أفضل ينتظره.
ولا نريد أن يفهم البعض أن تناول موضوع الأحلام في دراسة سيكولوجية الشخصية هو للمتعة أو لرفض أو مغالطة اتجاه ما، مايهمنا كباحثين في سيكولوجية الشخصية هو دراسة تأثير الأحلام على شخصية صاحبها.
على سبيل المثال يحق لنا أن نتساءل لماذا يصحو بعض الناس من النوم ويتوجهون توجهاً معيناً بوحي الحلم؟ كم من شخص استشعر السريرة والتوازن النفسي بعد حلم جميل؟ وهنا لا يخفى على أحد منا أن الكثير من الأساطير والشعر الملحمي والإنتاج الفكري القومي هو من وحي الأحلام ألم يكن تعيين النبي يوسف بناء على حلم؟ ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن تكون الأحلام برمتها قابلة للتصديق أو التحقيق وإلا كيف لنا أن نصدق أن الشمس والقمر كانا ساجدين له؟ إذاً القضية لا تكمن في تفسير الحلم وإنما كيف يبرمج بعض الناس حياتهم بعد الحلم؟ في حين لا يؤثر في الآخر مايرونه بل على العكس يفسرونه بالضد.
باختصار ما يهمنا في أبحاث الشخصية لم يكن على الإطلاق حرفية الحلم وإنما رمزية الحلم ومحتواه الباطن وآلية التعامل معه أي ردود فعل الشخص صبيحة اليوم التالي لحلم مزعج أو ُمفرح...
لنأخذ أحلام اليقظة على سبيل المثال أليست وسائل دفاع أولية يمكننا من خلالها أن نحقق في الحلم ما عجزنا عنه في الواقع؟ فكم من طفل يتعرض للتقريع من أحد فيتخيل نفسه في أحلام اليقظة بطلاً ينهال على خصمه بالضرب.
فكيف نأخذ هذه الوسيلة الدفاعية بالتفسير رغم أنها لا تعدو عن كونها تخيلاً حلماً في حين أننا نرفض الأخذ بحرفية الحلم؟
السبب وببساطة لأن "الأنا" هنا قد تدخلت في أحلام اليقظة وبالتالي فهناك جانباً واقعياً من الحلم كما أننا قد نلاحظ ردود فعل من جانب المنظومة الحسية والحركية كأن يركل الطفل أو يعرَق من شدة التوتر أو قد يضحك أو يصرخ ولكن ما الذي سيحصل لو كان هذا الطفل شديد الحساسية وغير ناضج انفعالياً أو لم تتح له فرصة التخيل؟ إنه بلا شك سيهرع إلى غرفته باكياً ولنفرض جدلاَ أن هذا الطفل ومن إثر بكائه تمكن منه النوم فحلم ذات الحلم الذي افترضناه في حالة اليقظة فماذا يمكننا أن نسمي هذا الحلم؟ وهل ساهم حلمه ذاك الحلم في التنفيس عن رغبة الطفل؟ وهل يعبر عن رغبة لديه برد اعتباره لذاته أو هل يعكس تقديره لذاته أم سنقول أنه ضغث حلم؟ والكثير من التساؤلات التي قد تخطر ببالنا كمحاولات منطقية لفهم آلية تجُسد الحلم.
إن القضية تُقاس بهذه البساطة فشحوب الطفل أئناء نومه أو توَرد وجنتيه أو تعرقه هي بلا شك ردود فعل فيزيولوجية ما كان لها أن تكون لو لم تتلقى أوامرها من الجهاز العصبي.
إذاً ليست أحلام ن هذا الحلم اليقظة فقط وسائل دفاعية بل الأحلام برمتها قد تكون وسائل دفاعية وذلك حسب تكوين الشخصية ونمط التربية والدليل على ذلك سؤالنا حول طبيعة أحلام بعض المشاهير سيكشف بما لا يرقى إليه الشك أن واقعهم كان ربما جزءاَ من تخيلاتهم وطموحاتهن.
ألم تكن توجهات موسوليني للسياسة لأنه نشأ يسمع لأبيه ولتفسيره للحلم الذي رآه؟
وما يؤكد أن الأحلام رمزية ولست حرفية هو حلم سيدنا إبراهيم وكيف هم بقتل ابنه إسماعيل لأنه حاول تنفيذ الحلم حرفياً فجاء عيد الأضحى تفسيراً رمزياً لحلم سيدنا إبراهيم.
في الأحلام عادة ما نكون على سجيتنا ونعبر عن أنفسنا بتلقائية فالحلم لا يراعي الأصول الاجتماعية، وهو وسيلة إسقاطيه نمارس فيه الخيال خيالاً ليس فيه إعمال كما في ممارسة الكتابة، والحالم في حلم النوم ليس كالحالم في حلم اليقظة لأن حلم اليقظة يتجه إلى الحاضر ويقدم مشاهد خيالية لأجواء مستقبلية أما حلم النوم ففيه التوجهات للماضي والمستقبل.
يمكننا القول أن الحلم يعطي روحاً جديدة لرغباتنا التي لم تتحقق في الماضي، أو التي ننشدها في الحاضر، كما وقد يشكل تصورات جديدة لمستقبلنا، وأخيراً يقوم الحلم بمهمة تنظيمها في بناء درامي فريد فتصبح أحلام كل منا جزءاً لاينفصل بحال من الأحوال عن شخصيته وكأن الأحلام هي تابلوهات متتابعة لدراما واحدة.
هل الأحلام صور عقلية لأفكار اليقظة؟
إن الأحلام مثل اللغة فاللغة تُجسَد الأفكار في حالة اليقظة، بينما الصور تُجسَدها بالأحلام، والدليل يكمن في التساؤل التالي: لماذا تظهر أفكارنا في النهار صورٌ حلمية ألا يعني ذلك أن لغة الفكر المرئية قد تكون صورة في الحلم؟
مما لاشك فيه أن الهلوسة في اليقظة تشبه إلى حد كبير الهلوسة في الحلم، فنحن نستيقظ أحياناً ولدينا شعور بانزعاج عضوي كأن نحسً مثلاَ بثقل في الرأس، أو باختناق وكل ذلك لكوننا متأثرين بصورةٍ حلمية استدعت تلك الاستجابة الفيزيولوجية التي تحدث نفسها أثناء اليقظة. فكم من شخص رأى أنه يقع فيصاب ويتألم في نومه ويُخيَل إليه أنه يحس بآلام في نفس المناطق التي تأذت في الحلم.
عندما نفكر في اليقظة فنحن نبحث عن تصوَر، وإن تصَور شيء ما أصله فكرة، فأنا لم أكن لأتصور أن أكتب هذا الموضوع لو لم أفكر فيه، وبالمقابل وأنا أفكر فيه كنت قد كونت تصوراً ذهنياً لما سأكتبه، وكيف سيتقبلَه القارئ، والكثير من التصورات التي كانت تجسيد لأفكار لم أكن لأتصورها لولا تفكيري فيها،
وعلى الرغم من كون المُدركات الحسية تشكَل مادتها الخام الأولى فأنا أفكر بتقبل الآخرين بكل حواسي، وكذلك يمكن أن تكون الأفكار على مستوى الذهن فقط، ومثال ذلك ما يحدث عندما نطلب من طفل ما أن يرسم لنا طبيعة وهو من سكان البادية مما لاشك في أن عناصر الفكرة التي طبعها على الورق هي ناتجة من أحد احتمالين الأول: في كون الطفل قد رأى منظراً للطبيعة فصَوره وحفظ الصورة البصرية في ذهنه فاستحضرها أو بضعاً منها حينما كان أبعد ما يكون عن الطبيعة. والاحتمال الثاني: أن هذه الصورة التي رسمها الطفل ليس لها نسخة مطبوعة في منظومته الحسية والإدراكية وإنما صورة ذهنية خالصة بالضرورة. وعليه فإن عملية طبع الصور البصرية واستحضارها إلى ساحة الشعور هي عملية ذات وجهين الأول إدراكي حسي والثاني إدراكي ذهني وأن هذا الأخير هو ما يحدد بدقة دور العقل في تشكل الصور الُحلمية من حيث مادة الحلم والتي هي عبارة عن تصوَر لفكرة كما تُطرح الفكرة في اليقظة في هيئة كلمات تفيد التواصل بين الناس.
وربما تتضح الصورة أكثر إذا حللنا معنى "التصعيد" وهو ميكانيزم دفاعي كأن نطلب مثلاً من شاب لم يمارس الجنس ولكنه يعي حكماً التغيرات الفيزيولوجية التي أثرت بدورها على جهازه النفسي وجعلته يشعر بجملة من الحاجات الملحة والتي وفي كثير من الأحيان لا يكترث لها وأحيانا أخرى لشدة إلحاحها تبدو مخيفة وذلك حسب قدرته على التصعيد أو بالأحرى حسب الأنا الأعلى وقدرته على التعامل مع التطورات الجديدة بواقعية لا بمثالية كما هي عادتها.
ما يحدث في التصعيد أن نطلب من هذا الشاب أن ينظم الشعر الغزلي الذي يتغنى بالمرأة ومفاتنها فهل سألنا أنفسنا لماذا لم نطلب منه أن يقرأ الشعر الملحمي، أو يؤلف الرواية، أو يقرأ في السياسة؟
الجواب ببساطة لأن الشعر الغزلي يمثَل تنفيس لصور ذهنية تتابع في لاشعوره تكون مادتها الخام المرأة وبالتالي التغني بجمال جسد المرأة يبقى أسمى من ارتكاب الفاحشة." وجهة نظر شخصية قد لا تكون مقبولة اجتماعياً، أو دينياً، ولكن إن جاز لنا أن نقيم وهذه ليست مهمتنا بطبيعة الحال فيبقى الشعر الذي يتغنى بمفاتن المرأة أسلم على الأقل من سلوك آخر يُعدً هو الآخر مرفوض حكماً "
لنعد إلى آلية أحلام اليقظة ولنفترض أن هذا الشاب لا يقرض الشعر أفلا تعتبر أحلام اليقظة سجلات مذكراته التي يسطَر عليها أخيلة عشقه وصور غرائزه المدفونة؟
وهذا هو صلب هذه النظرية فكل منا قد حباه الله بقدرات مختلفة منها الموسيقية ومنها الرياضية ومنها اللغوية الخ...
ومما لاشك فيه أن تنوع هذه القدرات هو الذي يُغني الحياة الإنسانية فكل منا ينفَس عن مكنوناته بطريقته الخاصة فعالم النفس مثلاً لا يوصل أفكاره عن طريق الرياضة ولا الرقص ولكن فحسب من خلال مخاطبة العقل، وتُقاس حسب هذا المعيار القدرات الفردية الموروثة أو المكتسبة محولة الأفكار في صعيد الذهن بما يشبه الإحيائية إلى أشياء واقعية محسوسة وما يبدو هو أننا نحمل في لاشعورنا الاستجابة برد فعل معين حيال مثير معين.
ويبقى السؤال الجوهري في هذا كله أين يكون العقل في صورنا الحُلمية؟
مما تقدم نجد أن الحلم شأنه شأن الإبداعات التي يقوم بها كل منَا في مجاله وتعتبر الفردية لدى كل واحد فينا هي مايُناط بها ترجمة تلك الأحلام وتجسيدها على هيئة محسوسات، من خلال آلية تحول أفكارنا الذهنية حول مواضيع معينة إلى مواد حسية، و عليه فإن الحلم في ذلك يشبه واقع هؤلاء المبدعين.
ففي الحلم نتصور، وتُصاغ تصوراتنا في شكل صور حقيقية، ومن هنا تأتي خصوصية الحلم لدى كل منا والدليل الأكبر في ذلك أن أحلامنا لا تتشابه، حتى وإن تشابهت إبداعاتنا وطرق تنميتها، فأحلامنا لن تتشابه ولو كان الواقع غير ذلك لرأينا للرسامين ذات الأحلام ولافترضنا أن كل المجرمين لم يروا يوما وروداً في أحلامهم، ومن ذلك كله يمكننا القول بان كل حلم من أحلامنا لا يخلو من إبداعاتنا وتفردًنا، وهو في ذلك يتقاطع إلى حد كبير مع اليقظة من حيث كينونة الرغبات في مادته الفكرية، هنا فقط يمكننا أن ندرك سبب تأويل الأحلام وكيف أنها بفعل التأويل تتحول من رمزية إلى حرفية في الوقت الذي تُعد فيه أصلاَ رمزية لا حرفية