تشارلز ديكنز

تصوير أعماق المدن والبشر



منذ سنوات تتواصل اعادة تحرير واصدار رسائل الروائي الانجليزي الشهير تشارلز ديكنز ويومياته الصحفية فقد صدر، مؤخراً، الجزء الثالث من يومياته التي حررها مايكل سلاتر، كما صدر الجزء العاشر من رسائله التي حررها غراهام ستوري وآخرون, وفي الموضوعات التي يعالجها الجزء الثالث من يومياته نجد نفس الطاقة التي بعثت الحياة في رواياته الرئيسية في تلك السنوات 1851-1859 ، وهي دوريت الصغيرة ، و المنزل الكئيب : الغضب تجاه الرياء واللامبالاة ببؤس الثقافة السياسية في العصر الفكتوري الوسيط، وهو ما سماه تشيسترتون الخنوع المعلن والدبلوماسية القذرة , ويتجسد رد فعل ديكنز المميز على ذلك في السخرية المشبعة بالحنق، حيث ينقب في مخيلته ليجلد التملق والنفاق المحيط به, وهذا هو الصوت السائد في هذا الجزء من اليوميات, غير ان هناك، الى جانبه، اصواتاً من حياة ديكنز البارعة المزاج والواسعة الخيال، حيث التذكر التفصيلي الرائع لتجربة الطفولة، والعزم على التعبير عن معاناة الفقراء والمهمشين, ويحتوي هذا الجزء من اليوميات، ايضاً، على ذكريات ديكنز الشخصية الاكثر كشفاً، ودفاعه العلني عن فنه، وتقديمه العون الهائل للقراء على معرفة دوافع وظروف كتابة عدد من روايات ديكنز وقصصه والشخصيات التي ظهرت فيها.
ومن المعروف ان ديكنز الذي ولد عام 1812، وبدأ عمله المهني كمراسل صحفي في البرلمان، كان يعتبر افضل كاتب للتقارير الصحفية في زمنه، ويتضح هذا في الجزء السابق، الثاني، من يومياته التي حررها مايكل سلاتر ايضاً, وربما كان تقدير النقاد لتميز ديكنز كصحفي يرتبط بمصادر معلوماته وحيويته في التقاط الاخبار، وقدرته على اختيار القصص التي تجتذب قراء الصحافة, ومن الطبيعي ان تساهم سمعته ككاتب وروائي في حماس الصحافة لنشر ما يحرره ويكتبه، وحماس القراء في متابعة ما ينشر له.
فعندما يقوم ديكنز بكتابة تحقيق تفصيلي عن ظاهرة او مؤسسة ما، تظهر طاقاته الاستثنائية في المعاينة والوصف نفسها على افضل نحو، ولا تتوقف عند حدود كتابة تقرير صحفي عن حدث مستقل, والمقالات الموجودة في الجزء الثاني من يوميات ديكنز، والتي تشمل الفترة من 1834-1851 حول مواضيع مختلفة بينها السجون، واجراءات البوليس السري، واصلاحيات الاحداث، وحضانات الاطفال، وكتاب عرائض الاسترحام، مقالات تتميز بالفعالية، والاعتدال، والحجة المقنعة، وتهتم بالمشاكل الاجتماعية التي يأمل من خلال معالجتها التأثير على الرأي العام.
ولم يكن ديكنز، كما اشير غالباً، يتمتع بموقف سياسي ثابت، بل بحماسات وكراهيات اكثر مما بآراء راسخة, وتتجلى اهتماماته الرئيسية التي مازال كثير منها يتسم بأهمية في التعليم، واللهو البريء، والسكن، وصحة الفقراء، ورعاية الاطفال، واصلاح السجون، وهو ما نجده في مقالات هذه المجموعة من اليوميات, وفي بعض الاحيان يبدو القارىء وهو يسمع تنافراً في نغمات الاصوات، عندما يربط مثلاً، في احدى مقالاته الصحفية الهامة، بين التقدم الاجتماعي ونجاحات التجارة والاستثمار الحر لرأس المال, ومما يثير المفارقة انه وصف باعتباره راديكالياً محافظاً ، اذ لم يكن هناك اطار سياسي يستوعب آراءه الانتقائية التي تتصادم احياناً مع بعضها.
لقد حقق ديكنز انجازات صحفية مدهشة في السنوات السبع عشرة التي يغطيها الجزء الثاني من يومياته،حيث الحجة المقنعة، والكشف عن البؤس، والوصف الحي، والابتكار في لغة الكتابة، ومن المدهش انه كتب، خلال هذه السنوات ثماني روايات وثلاثاً من قصص عيد الميلاد الشهيرة، وعدداً من المسرحيات واكثر من مائتي تقرير ومقالة وعرض، وما يكفي من الرسائل لاصدار خمسة مجلدات ضخمة, ولكن ديكنز، الناقد الاجتماعي والمصلح الليبرالي، كان بمعنى ما صحفياً طوال حياته، اذ لم تكن هناك سوى فترات قصيرة لم يحرر فيها مجلة او يسهم، بانتظام، في اخرى, وفي عام 1850م اصدر ديكنز مجلة كلمات عائلية التي حققت نجاحاً استثنائياً، وكانت وسيلة لتواصله المباشر مع قرائه من خلال كتاباته الصحفية الاسبوعية, وفضلاً عن ذلك كان ديكنز يلقي الخطابات في المآدب من اجل القضايا الخيرية، كما قام بزيارة فرنسا واميركا وايطاليا، وانجب تسعة من الاطفال، وبحلول نهاية هذه الفترة وصلت شهرته ذروتها، رغم ان بعضاً من اعظم ابداعاته الروائية جاءت في فترة لاحقة.
ويذكر كتاب سيرة تشارلز ديكنز انه في عام 1854 حدث اضراب في مدينة بريستون الصناعية بشمال انجلترا، فقطع ديكنز، بفضوله النهم المعروف، كل الطريق من لندن الى هناك ليرى ما الذي كان يجري وفي وقت لاحق كتب رواية عن ذلك الحدث سماها ازمنة صعبة ، وسمى المدينة كوكتاون كانت مدينة مكائن ومداخن طويلة تنتشر منها اعمدة دخان لا متناهية بخطوط افعوانية, كانت فيها قناة قذرة، ونهر يجري ماؤه بلون ارجواني، وبرائحة تبعث على الغثيان، واكوام هائلة من البنايات المليئة بالنوافذ حيث الضوضاء والقعقعة طيلة اليوم، وحيث مكبس الآلة البخارية يصعد ويهبط بحركة روتينية مثل رأس فيل في حالة كآبة وجنون .
وربما تكون هذه القطعة هي الاكثر شهرة في الادب الانجليزي حول تأثيرات الثورة الصناعية وتشويهها الانسان.
وتشارلز ديكنز قبل كل شيء كاتب عن حياة المدن التي تميز بفهمها من الداخل وكانت المدينة التي عرفها على افضل نحو، حيث عاش كل فترة صباه تقريباً، هي مدينة لندن, وكان ديكنز، نفسه، يشبه لندن القرن التاسع عشر، فقد كان يتمتع بحيوية استثنائية، ومخيلة هائلة، مشوشة ومهتزة احياناً وروايات ديكنز تشبه المدينة، ايضاً، فهي ضخمة، ومكتظة بكثير من الشخصيات الغريبة الاطوار: مجرمون، رجال شرطة، ايتام، مشردون، اناس يترنحون على حافة الافلاس، وهم يتشبثون بالكياسة البرجوازية, وتشبه مخيلة ديكنز، الى حد ما، ذلك الحصان الجامح الهارب في روايته الاولى اوراق بيكويك , فقد كتب اربع عشرة رواية، كانت روايات ضخمة، معظمها يزيد على ستمائة صفحة لكل واحدة منها، وحبكاتها تتحرك متدفقة، ومتجهة، احياناً، في منعطفات مفاجئة.
يرة ، ودومبي والابن ، حشد من الشخصيات التي تتسم بالمبالغة، وتشن، بهذا الشكل او ذاك، هجوماً مريراً على المجتمع الرأسمالي الذي كان يزدهر حينئذ، فكان ديكنز ناقداً لا يرحم لنواح كثيرة في المجتمع الفكتوري.