دور الإنسان في التاريخ.
الطرح الإشكالي:
إن الإنسان ليس كائنا ميتافيزيقيا يتعالى عن العالم المادي الملموس، بل إنه كائن تاريخي، كائن يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لمجموعة من الشروط الموضوعية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية …، وهذا هو ما يسمى: "التاريخ"، الذي يثير قضايا فلسفية حول المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حول الماضي، لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تنفصل عن الحاضر بل والمستقبل، ومن بين المفاهيم المركزية في علم التاريخ نجد مفهوم التقدم الذي يختلف المؤرخون حول المسارات التي يتخذها، وأخيرا الدور المعقد الذي يتخذه الفاعل الأساسي في التاريخ أي الإنسان، وهي قضايا يمكن صياغتها من خلال جملة من الأسئلة:
* ما هي المعرفة التاريخية؟
* هل للتقدم مسار واحد؟ أم مسارات متعددة؟
* من الذي يتحكم في الآخر؟ الإنسان أم التاريخ؟
المحور الأول: المعرفة التاريخية:
إن التطرق لموضوع المعرفة التاريخية يثير إشكالا منهجيا يتعلق بالماضي الذي انقضى وولى، والتعامل معه في الوقت ذاته كموضوع للمعرفة، و من ثمة فكيف يمكن الحكم على المعرفة التاريخية؟
يؤكد ريمون أرون R. Aron أن المعرفة التاريخية محاولة لإعادة بناء الحياة الماضية من خلال الاستعانة بمخطوطات ووثائق مختلفة، ومن ثم تكون المعرفة التاريخية مستقلة عن التجارب التي يعيشها الناس في الحاضر، إن الحاضر يمثل فضاء عاما يمكن الناس من معرفة تلقائية وشائعة حول سلوكياتهم وأفكارهم، إلا أن الأمر يختلف تماما فيما يخص المعرفة التاريخية، لأنه يصعب أن يتمثل الناس كليا الحياة كما كانت في الماضي، وبتعبير أوضح، ستظل المعرفة التاريخية غير قادرة على جعل المعاصرين يستشعرون فهم الناس الذين عاشوا في الماضي لحياتهم والطريقة التي كانوا يتمثلون بها سلوكياتهم وأفكارهم.
أما بول ريكور P. Ricœur فيعتقد أن الواقعة التاريخية تشبه الوقائع العلمية الأخرى باعتبارها نتاجا لمنهج علمي يتسم بالموضوعية، فالمؤرخ يستنطق الأثر التاريخي من خلال مجموعة من التساؤلات والفرضيات، ليتحول الماضي إلى واقع أو حدث.
وفي مقابل ما سبق، يؤكد الإبيستيمولوجي المعاصر جيل غاستون غرانجي G. Granger أنه لا يجب الخلط بين التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، لأن التاريخ ليس واحدا من العلوم الإنسانية...، فقد يتأرجح المؤرخ بين هذه العلوم جميعا دون أن يتبنى أحدا منها، مما يجعل من التاريخ تخصصا متميزا، إن التاريخ لا يهتم ببلورة نماذج خاصة بالظواهر كما تفعل العلوم، لأنه يسعى إلى بناء الوقائع نفسها التي كانت في الماضي، فالتاريخ في نظر غرانجي ليس علما، وإنما هو أحد الفنون المتأرجحة بين الرواية والعلوم الاجتماعية، فمن خلال نزوعه الجمالي يقترب التاريخ من الرواية، ومن خلاله بعده الصوري يقترب من العلوم الاجتماعية، كما يمكن القول بأن التاريخ ليس علما لأنه ليس معرفة تقنية، أو لأنه تقنية تسعى إلى إعادة بناء الماضي، وذلك ما يحوله إلى أيديولوجيا رغم بعض المساعي التي تحاول أن تنزع به نحو الموضوعية.
المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم:
إذا كان الماضي يتكون من مجموعة من الأحداث المتعاقبة كرونولوجيا، فهل نستطيع أن نؤكد بأن الوقائع التاريخية تعرف سيرورة تراكمية؟
تعتقد الماركسية أن الناس يدخلون في علاقات إنتاج، وبالتالي شروط موضوعية مستقلة عن إرادتهم، وفي حالة ما إذا كانت وسائل الإنتاج ملكية خاصة، فإن ذلك حتما يقود إلى الطبقية وبالتالي إلى استغلال الإنسان للإنسان، هكذا عرف التاريخ أنماطا متعاقبة للإنتاج سادت فيها الطبقية ويتمثل آخرها في نمط الإنتاج الرأسمالي، ويمكن تفسير التحولات التي عرفتها المجتمعات من خلال القوانين الدياليكتيكية التي تقنن صيرورة الوجود الاجتماعي، ومن ثم يمكن تفسير جميع أشكال التحولات التاريخية للمجتمعات من خلال صراع المتناقضات، لهذا ترى الماركسية أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي.
إذا كانت الماركسية تحدد دينامكية التاريخ في القوانين الجدلية، فإن ميرلوبونتي Merleau-Ponty يؤكد أن للتاريخ منطقه الخاص: فهو من جهة عبارة عن تراجيديا واحدة تتأطر داخلها جميع الأحداث، ومن جهة أخرى يلاحظ أن مكونات تلك التراجيديا تتنامى بشكل متسلسل وتعاقبي نحو نهاية معينة، وبما أن التاريخ يعتبر نسقا منفتحا فإن ذلك ما يسمح بوجود فجوات تؤثر في انتظام سيرورة الوقائع: فقد يحدث أن تختل العلاقة الجدلية بين الشروط الاقتصادية والشروط الأيديولوجية، بحيث يسبق النضج الأيديولوجي النضج الاقتصادي، كما يمكن أن تزيغ دينامية التاريخ عن الأهداف المرسومة والغايات المتوقعة، لكن ذلك لا يبيح التخلي عن الاعتقاد بوجود "منطق للتاريخ"، لأن هذا سيفسح المجال لاعتبار التاريخ مجرد احتمالات ضمن سلسلة من الممكنات.
ولعل ذلك ما يتجه إليه تمثل ليفي ستروس Lévi-Strauss لأن هذا العالم الأنتروبولوجي يعتقد أن تكريس فكرة التقدم فيه كثير من المجازفة، فالتاريخ لا يدل ضرورة على وجود حركية تتجه نحو التقدم، وفكرة التقدم قد تشير فقط إلى وقائع متزامنة مرتبطة بأمكنة مختلفة، وليس بالضرورة إلى وقائع متدرجة عبر الزمان، فقد ذهب الناس مثلا إلى الاعتقاد بوجود "عصر حجري" قبل "العصر البرونزي"، وذلك أمر لم يحدث بالضرورة، والحقيقة أنه نظرا لتطور تقنية صناعة الأدوات والمعدات من البرونز والنحاس قياسا بصناعتها من الحجارة فرض تفوق التقنية الأولى عن الثانية. ذلك ما جعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بتقدم حدث عبر الزمان، بل إن ليفي ستروس ذهب إلى التأكيد أن تحول الوقائع عبر التاريخ يحدث وفق ما يسمى عند البيولوجيين بالطفرات، هكذا يكون التراكم التاريخي مجرد عملية حسابية تستجمع كل الوقائع التي مرت، وذلك لا يؤكد حتما وجود تسلسل منطقي.
الطرح الإشكالي:
إن الإنسان ليس كائنا ميتافيزيقيا يتعالى عن العالم المادي الملموس، بل إنه كائن تاريخي، كائن يتطور في الزمان والمكان، ويخضع لمجموعة من الشروط الموضوعية: اقتصادية، اجتماعية، سياسية …، وهذا هو ما يسمى: "التاريخ"، الذي يثير قضايا فلسفية حول المعرفة التاريخية باعتبارها معرفة حول الماضي، لكنها في نفس الوقت لا يمكن أن تنفصل عن الحاضر بل والمستقبل، ومن بين المفاهيم المركزية في علم التاريخ نجد مفهوم التقدم الذي يختلف المؤرخون حول المسارات التي يتخذها، وأخيرا الدور المعقد الذي يتخذه الفاعل الأساسي في التاريخ أي الإنسان، وهي قضايا يمكن صياغتها من خلال جملة من الأسئلة:
* ما هي المعرفة التاريخية؟
* هل للتقدم مسار واحد؟ أم مسارات متعددة؟
* من الذي يتحكم في الآخر؟ الإنسان أم التاريخ؟
المحور الأول: المعرفة التاريخية:
إن التطرق لموضوع المعرفة التاريخية يثير إشكالا منهجيا يتعلق بالماضي الذي انقضى وولى، والتعامل معه في الوقت ذاته كموضوع للمعرفة، و من ثمة فكيف يمكن الحكم على المعرفة التاريخية؟
يؤكد ريمون أرون R. Aron أن المعرفة التاريخية محاولة لإعادة بناء الحياة الماضية من خلال الاستعانة بمخطوطات ووثائق مختلفة، ومن ثم تكون المعرفة التاريخية مستقلة عن التجارب التي يعيشها الناس في الحاضر، إن الحاضر يمثل فضاء عاما يمكن الناس من معرفة تلقائية وشائعة حول سلوكياتهم وأفكارهم، إلا أن الأمر يختلف تماما فيما يخص المعرفة التاريخية، لأنه يصعب أن يتمثل الناس كليا الحياة كما كانت في الماضي، وبتعبير أوضح، ستظل المعرفة التاريخية غير قادرة على جعل المعاصرين يستشعرون فهم الناس الذين عاشوا في الماضي لحياتهم والطريقة التي كانوا يتمثلون بها سلوكياتهم وأفكارهم.
أما بول ريكور P. Ricœur فيعتقد أن الواقعة التاريخية تشبه الوقائع العلمية الأخرى باعتبارها نتاجا لمنهج علمي يتسم بالموضوعية، فالمؤرخ يستنطق الأثر التاريخي من خلال مجموعة من التساؤلات والفرضيات، ليتحول الماضي إلى واقع أو حدث.
وفي مقابل ما سبق، يؤكد الإبيستيمولوجي المعاصر جيل غاستون غرانجي G. Granger أنه لا يجب الخلط بين التاريخ وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، لأن التاريخ ليس واحدا من العلوم الإنسانية...، فقد يتأرجح المؤرخ بين هذه العلوم جميعا دون أن يتبنى أحدا منها، مما يجعل من التاريخ تخصصا متميزا، إن التاريخ لا يهتم ببلورة نماذج خاصة بالظواهر كما تفعل العلوم، لأنه يسعى إلى بناء الوقائع نفسها التي كانت في الماضي، فالتاريخ في نظر غرانجي ليس علما، وإنما هو أحد الفنون المتأرجحة بين الرواية والعلوم الاجتماعية، فمن خلال نزوعه الجمالي يقترب التاريخ من الرواية، ومن خلاله بعده الصوري يقترب من العلوم الاجتماعية، كما يمكن القول بأن التاريخ ليس علما لأنه ليس معرفة تقنية، أو لأنه تقنية تسعى إلى إعادة بناء الماضي، وذلك ما يحوله إلى أيديولوجيا رغم بعض المساعي التي تحاول أن تنزع به نحو الموضوعية.
المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم:
إذا كان الماضي يتكون من مجموعة من الأحداث المتعاقبة كرونولوجيا، فهل نستطيع أن نؤكد بأن الوقائع التاريخية تعرف سيرورة تراكمية؟
تعتقد الماركسية أن الناس يدخلون في علاقات إنتاج، وبالتالي شروط موضوعية مستقلة عن إرادتهم، وفي حالة ما إذا كانت وسائل الإنتاج ملكية خاصة، فإن ذلك حتما يقود إلى الطبقية وبالتالي إلى استغلال الإنسان للإنسان، هكذا عرف التاريخ أنماطا متعاقبة للإنتاج سادت فيها الطبقية ويتمثل آخرها في نمط الإنتاج الرأسمالي، ويمكن تفسير التحولات التي عرفتها المجتمعات من خلال القوانين الدياليكتيكية التي تقنن صيرورة الوجود الاجتماعي، ومن ثم يمكن تفسير جميع أشكال التحولات التاريخية للمجتمعات من خلال صراع المتناقضات، لهذا ترى الماركسية أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي.
إذا كانت الماركسية تحدد دينامكية التاريخ في القوانين الجدلية، فإن ميرلوبونتي Merleau-Ponty يؤكد أن للتاريخ منطقه الخاص: فهو من جهة عبارة عن تراجيديا واحدة تتأطر داخلها جميع الأحداث، ومن جهة أخرى يلاحظ أن مكونات تلك التراجيديا تتنامى بشكل متسلسل وتعاقبي نحو نهاية معينة، وبما أن التاريخ يعتبر نسقا منفتحا فإن ذلك ما يسمح بوجود فجوات تؤثر في انتظام سيرورة الوقائع: فقد يحدث أن تختل العلاقة الجدلية بين الشروط الاقتصادية والشروط الأيديولوجية، بحيث يسبق النضج الأيديولوجي النضج الاقتصادي، كما يمكن أن تزيغ دينامية التاريخ عن الأهداف المرسومة والغايات المتوقعة، لكن ذلك لا يبيح التخلي عن الاعتقاد بوجود "منطق للتاريخ"، لأن هذا سيفسح المجال لاعتبار التاريخ مجرد احتمالات ضمن سلسلة من الممكنات.
ولعل ذلك ما يتجه إليه تمثل ليفي ستروس Lévi-Strauss لأن هذا العالم الأنتروبولوجي يعتقد أن تكريس فكرة التقدم فيه كثير من المجازفة، فالتاريخ لا يدل ضرورة على وجود حركية تتجه نحو التقدم، وفكرة التقدم قد تشير فقط إلى وقائع متزامنة مرتبطة بأمكنة مختلفة، وليس بالضرورة إلى وقائع متدرجة عبر الزمان، فقد ذهب الناس مثلا إلى الاعتقاد بوجود "عصر حجري" قبل "العصر البرونزي"، وذلك أمر لم يحدث بالضرورة، والحقيقة أنه نظرا لتطور تقنية صناعة الأدوات والمعدات من البرونز والنحاس قياسا بصناعتها من الحجارة فرض تفوق التقنية الأولى عن الثانية. ذلك ما جعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بتقدم حدث عبر الزمان، بل إن ليفي ستروس ذهب إلى التأكيد أن تحول الوقائع عبر التاريخ يحدث وفق ما يسمى عند البيولوجيين بالطفرات، هكذا يكون التراكم التاريخي مجرد عملية حسابية تستجمع كل الوقائع التي مرت، وذلك لا يؤكد حتما وجود تسلسل منطقي.