واذكروا الله في أيام معدودات
د. عاصم بن عبدالله القريوتي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في فنح الباري ج 3 ص521: (( روى
ابن مردويه من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:" الأيام
المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، والمعدودات أيام
التشريق " إسناد صحيح، وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق.
وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عباس " أن المعلومات يوم النحر
وثلاثة أيام بعده " ورجح الطحاوي هذا لقوله تعالى: (ويذكروا اسم الله في
أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) فإنه مشعر بأن المراد أيام
النحر. انتهى. و هذا لا يمنع تسمية أيام العشر معلومات، ولا أيام التشريق
معدودات، بل تسمية أيام التشريق معدودات متفق عليه لقوله تعالى: (واذكروا
الله في أيام معدودات) وقد قيل: إنها إنما سميت معدودات، لأنها إذا زيد
عليها شيء عد ذلك حصرا أي في حكم حصر العدد والله أعلم.)) انتهى كلام
الحافظ رحمه الله.
وروى البخاري في صحيحه رقم 969عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ
أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ قَالَ وَلَا
الْجِهَادُ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ
يَرْجِعْ بِشَيْءٍ".
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:
قوله: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه) كذا لأكثر الرواة بالإبهام،
ووقع في رواية كريمة عن الكشميهني " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل
في هذه " وهذا يقتضي نفي أفضلية العمل في أيام العشر على العمل في هذه
الأيام إن فسرت بأنها أيام التشريق - وسميت أيام التشريق لأنهم كانوا
يشرقون اللحم أي ينشرونه ليجف في الشمس ليتزودوا به -، وعلى ذلك جرى بعض
شراح البخاري، وحمله على ذلك ترجمة البخاري المذكورة فزعم أن البخاري فسر
الأيام المبهمة في هذا الحديث بأنها أيام التشريق، وفسر العمل بالتكبير
لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط ".
ثم نقل عن الإمام ابن أبي حمرة - رحمه الله - قوله: " الحديث دال على أن
العمل في أيام التشريق أفضل من العمل في غيره, قال: ولا يعكر على ذلك كونها
أيام عيد كما تقدم من حديث عائشة، ولا ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام "
أنها أيام أكل وشرب " كما رواه مسلم، لأن ذلك لا يمنع العمل فيها، بل قد
شرع فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى، ولم يمنع فيها منها إلا
الصيام".
قال: "وسر كون العبادة فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة
فاضلة على غيرها، وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب فصار للعابد فيها مزيد
فضل على العابد في غيرها كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام، وفي
أفضلية أيام التشريق نكتة أخرى وهي أنها وقعت فيها محنة الخليل بولده ثم من
عليه بالفداء، فثبت لها الفضل بذلك.اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر عقبه: "وهو توجيه حسن إلا أن المنقول يعارضه،
والسياق الذي وقع في رواية كريمة شاذ مخالف لما رواه أبو ذر وهو من الحفاظ
عن الكشميهني شيخ كريمة بلفظ " ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر "
وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالإسناد المذكور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال " في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة " وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة.
ووقع في رواية وكيع المقدم ذكرها " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى
الله من هذه الأيام " يعني أيام العشر، وكذا رواه ابن ماجه من طريق أبي
معاوية عن الأعمش، ورواه الترمذي عن رواية أبي معاوية فقال " من هذه الأيام
العشر " بدون يعني، وقد ظن بعض الناس أن قوله " يعني أيام العشر " تفسير
من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس
الخبر. وكذا وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب بلفظ " ما من عمل أزكى عند
الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى " وفي حديث جابر في صحيحي
أبي عوانة وابن حبان " ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة "
فظهر أن المراد بالأيام في حديث الباب أيام عشر ذي الحجة، لكنه مشكل على
ترجمة البخاري بأيام التشريق ويجاب بأجوبة:
أحدها: أن الشيء يشرف بمجاورته للشيء الشريف، وأيام التشريق تقع تلو أيام
العشر، وقد ثبتت الفضيلة لأيام العشر بهذا الحديث فثبتت بذلك الفضيلة لأيام
التشريق.
ثانيها: أن عشر ذي الحجة إنما شرف لوقوع أعمال الحج فيه، وبقية أعمال الحج
تقع في أيام التشريق كالرمي والطواف وغير ذلك من تتماته فصارت مشتركة معها
في أصل الفضل، ولذلك اشتركت معها في مشروعية التكبير في كل منها، وبهذا
تظهر مناسبة إيراد الآثار المذكورة في صدر الترجمة لحديث ابن عباس كما
تقدمت الإشارة إليها.
ثالثها: أن بعض أيام التشريق هو بعض أيام العشر وهو يوم العيد، وكما أنه
خاتمة أيام العشر فهو مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت لأيام العشر من الفضل
شاركتها فيه أيام التشريق، لأن يوم العيد بعض كل منها بل هو رأس كل منها
وشريفه وعظيمه، وهو يوم الحج الأكبر".
ثم قال الحافظ رحمه الله:
وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله. وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة.
وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر
الصيام أو علق عملاً من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوماً منها تعين
يوم عرفة، لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكورة، فإن أراد أفضل أيام
الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعاً بين حديث الباب وبين حديث أبي هريرة
مرفوعا: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة " رواه مسلم، أشار إلى ذلك
كله النووي في شرحه.
وقال الداودي: لم يرد عليه الصلاة والسلام أن هذه الأيام خير من يوم
الجمعة، لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة، يعني فيلزم تفضيل الشيء على نفسه.
وتعقب بأن المراد أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء
كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره لاجتماع
الفضلين فيه.
ثم نبه الحافظ على ضعف الزيادة في حديث أيام العشر بأن:"صيام يوم منها يعدل
صيام سنة، والعمل بسبعمائة ضعف"، وكذا اللفظ الآخر:" يعدل صيام كل يوم
منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر".
والحمد لله رب العالمين
كتبه: أ. د. عاصم بن عبدالله القريوتي
أستاذ الحديث وعلومه في كلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية