في حين ذهبت "لوسيت فالنسي" خلال بحثها حول المجتمع التونسي خلال القرنين 18 و19، وركزت على ما أطلقت عليه بمصطلح العثافة، وبينت أن الفصائل التونسية كانت تخضع لتنظيم إنقسامي تتجلى معالمه الأساسية في:


عدم الاعتراف بالوجود الفردي لان الفرد لا ينفصل على الجماعة مع اعتبار القبيلة أعلى مستوى التنظيم الاجتماعي ([22]).
الاعتماد على السلالة الأبوية إذ يركز النسب على مؤسس السلالة ([23]).


تتفرع كل قبيلة إلى أجزاء يتجلى دورها في الإبقاء على العنف الجماعي وضبطه في آن واحد، ويتعلق الأمر بمبدأ الانصهار والانشطار ([24]).
إن مجتمع ما قبل الإستعمار تتخلله نزاعات أفقية بين قسمات متشابهة بينما تنعدم فيه جميع أوجه التراتب الاجتماعي العمودي، ويرجع ذلك إلى ضعف المستوى التكنولوجي وبساطة تقسيم العمل ([25]).

رغم ما أثارته النظرية الانقسامية من نقاش واسع في أوساط الباحثين المهتمين بمجتمعات المغارب، فإنها تعرضت للنقد والرفض من قبل بعض الباحثين ومنها على وجه الخصوص انتقادات المغربي عبد الله العروي ([26])، التونسي الهادي التيمومي ([27]).

هذه إذن وباختصار شديد جملة الخطابات الموروثة عن موضوع القبيلة في بلدان المغارب، قبل أن تظهر المونوغرافيات المغاربية كتيار استغرافي جديد، هذا التيار سيعيد بناء الخطاب حول القبيلة بمفاهيم ومناهج ومقاربات وإشكاليات جديدة.

ما هي إذن هاته الأمور التي صيغت بها إشكالية القبلية؟ وكيف جاءت القبيلة في مثن المونوغرافيات القبلية والتي تتخذ من الدراسة المجهرية موضوعا لها؟

سنحاول مقاربة هذه النقطة بالوقوف عند بعض نماذج من المونوغرافيات الرائدة سواء في المغرب أو تونس.

ففي المغرب شكلت أطروحة أحمد التوفيق ([28]) نموذج الخطاب الجديد حول القبيلة، فقد كان عنوان الأطروحة يشير إلى هدفه وهو دراسة المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر دراسة تاريخية دقيقة يكون فيها البحث عن تصور يتضمن نقد بعض التنظيرات، والتي أنجزت حتى الآن حول تاريخ المغرب، وتظهر الصفة النقدية لبحث أحمد التوفيق في مظهرها الأول في اختياره الموضوع، وقد اختار أحمد التوفيق تناول نموذج محدد هو قبيلة إينولتان، وبرر اختياره هذا بقوله:

" قد يبدو أن المجال المكاني للبحث ضيق إلى أدنى ما يمكن أن تتناوله دراسة تاريخية، كما قد يبدو كذلك أن الفترة الزمنية المختارة قصيرة، مضطربة اضطرابا لا يمكن أن يستبعد من أسبابه الظروف التي خلقتها المضايقات العسكرية والاقتصادية للمغرب ([29])".

ويرتبط تحديد موضوع الأطروحة بهذه الكيفية بانتقاد النظريات التي كانت سائدة حول تاريخ المغرب، خاصة من طرف الأجانب ، ويبرر أحمد التوفيق بعض تناقضاتها مع حقيقة الواقع التاريخي الذي تريد أن تفسره، وفي هذا الصدد يقول أحمد التوفيق:

" غير أن هؤلاء الباحثين قد اعترض جميعهم مشكل المصطلحات عند وصف الوحدات المختلفة الأحجام في التنظيم الاجتماعي للقبائل، ولم يترددوا مع ذلك في استعمال مصطلحات دارجة في علم الانتروبولجية، وفي الاقتباس من المصطلحات الإدارية الاستعمارية، ومن التسميات المحلية، مرادفين بينها بشكل يثير الالتباس، فقد مال مونطاني إلى استعمال تسميات لها علاقة بالتجمعات السكنية، بينما لاحظ بيرك أن أهل سكساوة لا يميزون بين القرية الصغيرة والقرية الكبيرة، وأنهم كانوا يستعملون "الموضع" وهي تسمية عربية فارغة، بينما نجد "هارت" يستعمل العشير لترجمة الربع عند بني ورياغر في الريف.كما أن تاقبيتش عنده ليست هي تاقبيلت التي ركز عليها "مونطاني" و"بيرك" في الأطل الكبير، بل هي ما ترادف عندهم القبيلة أي مجموع بني ورياغر.

وعندما نكتب بالعربية، فإما أن نلتجئ مباشرة إلى القاموس العربي لنختار ألفاظا "مناسبة" للتقسيمات المحلية، وبذلك نسقط التقسيمات القبلية للرحل على تنظيم المستقرين ونقع في خطأ تزكية تعابير الإخباريين والموثقين وحتى في الاستعمال الشفوي لكلمة تاقبيلت، مثلا، وإما أن نلجأ إلى ترجمة مصطلحات الباحثين الأجانب وبذلك نترجم إلى العربية، ترجمة غير صحيحة، مصطلحات لا تطابق التقسيمات الفعلية للقبائل، وهنا نقع في خطا مركب، فإذا رجعنا إلى "لسان العرب" لابن منظور، نجد أن التقسيمات القبلية غير دقيقة، سواء في مضمونها أو في درجتها، فلا نميز بشكل واضح بين الفصيلة والعشيرة، ولا بين العمارة والبطن والفخذ ...إلخ، ولكن بما أننا لا نرمي من وصف تقسيمات إينولتان على مقارنات واسعة، فإن مشكل المصطلحات يبدو اقل حدة وإلحاحا ([30])".

وقد حدد أحمد التوفيق تقسيمات قبائل إينولتان وحدد مستويات كل واحدة وكانت على الشكل التالي:

["العظام" أو "إيخصان" (مفردها إيخص) كوحدة روابطها أدنى إلى روابط التحالف منها إلى أواصر القربى ([31]) ، ثم الأفخاذ (مفرد فخذ) وهو ما اسماه مونطاني وبيرك ب"تاقبيلت" لان "تاقبيلت" تطلق في الاصطلاح الشفوي المحلي وعند الموثقين، على كل جماعة يعنيها التداول في شان ما، سواء في مستوى قرية واحدة، أو فخد واحد، أو ربع من الأرباع، أو مجموع اينولتان ([32]). ثم الأرباع وهي أربعة أرباع: ربع دمنات وربع كطيوة، وربع إيواريضن، وربع آيت شتاشن، وكان كل ربع يتكون من عدة أفخاذ، وفي مستوى الربع تنتفي كل دعوى للنسب المشترك([33]) ، و"اللف" وهو الحلف الحربي أو السلمي بين الأسر داخل الفخذ، من أجل السلطة أو لأجل رد الاعتبار، وكانوا يسمون هذا الحلف بدورهم "أمقون"] ([34]).

نفس العمل قام به عبد الرحمان المودن الذي استثمر مفهوم المجال لفهم بنية البوادي المغربية قبل الاستعمار ([35]) ، وقد لاحظ من خلال معاينة لحوض قبائل إيناون والتي أعطى أهمية إلى الجانب الاقتصادي في دراسته لنماذج من قبائل هذا المجال، وقد خرج بخطاب حول القبيلة مفاده:

" بقدر ما كان مفهوم القبيلة من المكبوتات لدى الفقهاء والكتاب، تهافت عليه المستعمر منذ ما قبل عقد الحماية بكثير، ولا مناص لدراسة تاريخ القبائل اليوم، على الأقل فيما يتعلق بالقرن الماضي، من الرجوع إلى ما تركه الرحالة الأجانب من أوصاف عن حياتها، فروعها، عدد سكانها وعاداتها، كما اطلعوا عليها أثناء أسفارهم، بيد أن الأوصاف الاستعمارية شحنت مفهوم القبيلة بشحنتين متناقضتين تستدعيان الرفض على حد سواء.

القبيلة هي إما الجمهورية البربرية الأصلية التي تعبر عن العبقرية المحلية، وتحتمي بالجبال في مواجهة المخزن العربي في السهل، أو هي جحافل العرب الغزاة الذين استحوذوا على السهول، لكنهم يفلحون في السطو أكثر مما يبرعون في الحرث، وهم الأساس لبلاد المخزن.

وإذا لم يعد من الضروري الإطالة في الحديث عن خلفية هذا التمييز، فإنه من اللازم التأكيد على ما قد يتعلق بمفهوم القبيلة اليوم، من حمولة عاطفة، تجعل البعض يرى في التشبث باستعماله نوعا من الموقف الطائفي في حين يعتبر البعض الآخر ذلك من باب البحث عن خصوصية ثقافية، وهما زعمان لا يقل احدهما إجحافا بالواقع عن الآخر ([36])".

وفي موضوع آخر يشير الباحث: " أن القبيلة على الأقل إلى القرن 19م، وبعض تقسيماتها إلى وقتنا الحاضر، لا تعني بالنسبة لأعضائها بعض المصالح المشتركة المحددة فقط، بل أخطارا خارجية موحدة كذلك، وواجبات متقاسمة أيضا، مما كان يجعل من القبيلة ومن تقسيماتها تعبيرا عن مجموعات ملتحمة لدوافع اقتصادية (ارض، مرعى) أو لأغراض دفاعية (في مواجهة مجموعات أخرى أو المخزن) أو لحاجة إدارية (توزيع الواجبات)" ([37]).

إذا كان الخطاب المونوغرافي حول القبيلة في المغرب قد حاول محاورة العلوم الاجتماعية ودخوله في نقاش مع الباحثين أمثال "روبير مونطاني" و"جاك بيرك" و"إرنست كيلنر" وغيرهم ([38]) ، فكيف قدم الخطاب المونوغرافي حول القبيلة في تونس؟ هل سلك نفس منعرجات البحوث المونوغرافية في المغرب أم كانت له إشكاليات ومنطلقات أخرى؟.

لقد بقيت الكتابة حول القبائل في تونس متأثرة بتيارين بارزين، الأول وموروث عن ابن خلدون ويقوم على الصراع الدائم بين العصبية القبلية والسلطة، والثاني على نظام البنيات المحلية.