الرحلةُ والراحلةُ ... حكايةُ الفتى النجفيّ

(الشاعر عبود الجابري في متحفِ النوم)

عبد السلام العطاري

العلاقات الدولية / اتحاد كتّاب الانترنت العرب

عندما تكونُ القصيدةُ وعاءَ فكرِ كاتبِها، عندما يكتبُ الشاعرُ ما لايراه الناسُ ليقرأَ الناسُ ما لا يراه الشاعرُ وتكونُ المعاني خيطَ بلورِ الندى يتقاطرُ على أوراقِ السورِ المُخْضَرِّ بلمعانِ الومضاتِ المتبادلةِ كقبلتينِ شهيتينِ لعاشقيْنِ تملأهما الرغبةُ بعد غيابٍ قصيّ طويلٍ جمعتْهما الصدفةُ على رصيفٍ بمظلةِ اللبابِ القديمةِ. عندها لا غرابةَ أنْ تجدَ من توكأَ على عصاهُ وعماهُ ومنسأتِه التي استوتْ قامتُها من اعوجاجِ الريحِ حين لطمتْها الريحُ ليعيدَ الشاعرُ استقامتَها لتغريَ السائرَ في ليلِ الغربةِ، للمضيّ إلى متحفِ نومِه ليكونَ محطةَ للراغبينَ بمعرفةِ ما بالمتحفِ وما فيه من آياتٍ بيّناتٍ تسرُّ القارئينَ.

فالقصيدةُ الصورةُ الأجملُ التي تعكسُ وجَه الشاعرِ وتظهرُ حقيقتَه؛ هي القصيدةُ الصورةُ الأطهرُ والأنقى والأشملُ والأجملُ بمعانيها الطاهرةِ عندما تتواءمُ الصورتانِ في مرآةِ القصيدةِ لتُظهِرَ نُبلَ الكاتبِ الذي استمدّ مدادَه المجبولَ بالتعبِ وبألفةِ القصيدةِ التي ألفتْه من ترابِ البلادِ المتخمّرِ بِرُطَبِها المنسي عندما تَحَنَتْ يدُ فلاحٍ نجفيٍّ حين المواسمِ بها.

هو الشاعرُ النصُّ، إذاً، والنصُ القصيدةُ، والقصيدةُ تشي بسرّ القلوبِ/ قَلْبِهِ. عندما يجني الجابريّ معانيَ قصائده، من جنائنَ لا يعرفها غيرُه والله، من جنائنَ اُصطفي لها واصطُفِيت له، واصطفَّت كلَما نهَرَ الجابريُ على الغريب عندما يشتهي الغريبُ ما ليس له بها من نصيب، فيكونُ العراقُ كُلُّهُ ؛حديقتَه وحقيقتَه؛ ووطنَه المجبولَ العصيَّ عن التذكيرِ الخالدِ في التأنيث، يعوّلُ ما عوّلَ عليه مولانا ابن عربي؛ ليعثرَ دائماً على اسمه بين جنباتِ الأسماءِ الحسنىّ في عبٍّ يدفئُ حبيبتَه العراقَ، وإن كان حبُّه لها في سياقِ التأنيثِ ليعثرَ وحدَه ووحدَه يعرفُ أين يعثرُ على ما أضاعوه بين السنابلِ بقدمينِ مغتسلتينِ متوضئتين بطللٍ يتقاطرُ من قبابِ المكانِ الأشرف /النجف، ليلفي البلادَ وقد عيث بها خرائبَ ويعيدُ لها قصيدتَها الروحَ، ويعيدَ لها بريقَها وارتفاعَ جبهتِها التي تستوطنُ الشمسَ، كلّما أشرقتْ عليها، ولا ترغبُ الا بمراحِها لا برواحِها، ويصيرُ ثالثَ النهرينِ إذ هي ولاّدةُ النبعِ تُطفئُ ظمأَ قلمِه وقلبِه الطينِ، الذي يُنبتُ حرائقَ إنْ عاثَ الغريبُ برُطبِها، وتنبتُ حرائرَ للزاهدينَ بحبها.

يتحدثان عن النهرِ/ عمّا أمحلَ منجروفِالسماوات/ وعمّا أسلمَ رياحَه لمطرِ المواسم/ يبكيان بعيونٍ تقطرُ رملاً / تقول له : أيّها المنديلُ العتيقُ/ ويقول لها يا صرّة َ الماء / فيعرفُ النهرُ أنهما موغلان / بماءٍ سرى في خيوطِ النار / فيغسلُ منتشياً / ما يذرّان على رصيفِ التمني / من رمادِ العناق.

فما بين النهرينِ وثالِهما؛ الشاعرُ الفتى النجفي ووطنُ امرأةٍ، وكلاهُما من وطَنيْن كليمينِ باتساعِ جرحِهما وحبِهما، فنزفا معاً حين شاطرَ العراقُ فلسطينَه تماماً كما الفتى النجفيّ العاشقُ عشقَه لـ(سلمةَ) على أهداب يافا، ليكونَ طعمَ القياثرَ التي جاؤوا بهما بطعمِ طلعِ النخيلِ وبرتقالِ يافا الأسير، فكانت القصيدةُ كالقيثارتين معشقةً بنسغِ البحرِ والنهرِ وما بين النهرينِ والبحرِ والنهرِ الشفةِ؛ ما اجترحه الفتى من فعلٍ قاربَ المجازَ وتجاوزَ ما أُجيزَ له فكان لمتحفِه شاديةٌ غيرُ ممسوسةٍ بسوءٍ غيرَ (سوءِ) النوم الذي احترفَه الفتى ليكتبَ في حلمِه عن حلمٍ سيكونُ في حُلمِها قصيدة تلدُ قصيدة.

فعلى راحلةٍ من كلامٍ في شاسعِ الحلمِ المُضيءِ بشدوِ( شاديتِه)، وقيثارتينِ يُضرَبن بأناملَ من لبنِ الطيرِ في مُتحفٍ لا صدىً لغير النشيدِ وتمائمِ قصيدةٍ يختلطُ الصوتُ الصدّاحُ بالرنينِ الصاعدِ من حنجرةٍ شربَتْ فُراتَ ماءِ الدجلة؛ كان الفتى النجفيُّ يتوضأُ بآياتِ الآياتِ، ويحمّلُ راحلتَه من حُسن الحسينيات تراتيلَ عشقٍ يقرضُها في رحلتِه القصيَّة، لقصيدةٍ تؤنسُ غربتَه التي لا تبرحُ ذاكرتَه، ولا تستريحُ الاّ في ظلِّ المعاني التي يظللها ناصيةَ العُمرِ النافرِ على حصانِ الغزواتِ الحافرِ بسنابكِه خارطةَ الوطنِ المجبول بالطين، ليوقظَ راعياً مخموراً بنشوةِ رنّةِ قصيدتِه العلياء، ولا يوقظ جسدَه الغارقَ في حلمِ طفلٍ يتأرجحُ بجدائلِ (الآراكِ) على ربوتها العاتيةِ الشاربةِ من قبابِ الذهبِ بكؤوسٍ من فخّارٍ تعتّقَ في أكنافِ حوزتِه، فاطلقَ التأويلَ للرنين... وطلّوا من الشرفاتِ على ما تصل إليه عيونُهم، فاختلفوا فيما بينهم وكان الحشدُ يتحسسُ ما قيلَ عن وترٍ مقطوعِ الأنفاس، أو ذاك الخاكيُّ المتأهبُ للنفيرِ، ووحدها من تجرعتْ رنةَ التأويلِ بأنّةٍ فآمنَ الفتى ومضى يتحسسُ قلبَه النايَ، وما رأوْه إذا رأى حلمَه الضجيجَ يرنُ في جيبِ النخيلِ لا في جيبِ العاجزِ البخيل.

كانوا يعرفونَ المكانَ / أبعدَ كثيراً / من حلمِ ناي / وأكثرّ شراسةً من ضجيج الطّبلِ / ... رنّة/... لكنها رنّةُ / : قال الموسيقيُّ / إنها عزفٌ منفردٌ على وترٍ مقطوعٍ الأنفاسِ / : وقالَ الجنديُّ / إنها أولُ النفير / وكان الطفلُ يحلمُ بجرسِ المدرسةِ / : وحدها المرأة قالتْ /...أنّةٌ / فتبعها حشدُ من المُصفقينَ ...لكنها ... لكنها / قالها رجلُ وحيدٌ / ومضى يتحسسُ قلبَه.

فهذا الفتى لا يطلبُ منكم سوى ما أنتم فيه، وله سنٌ يُعجبُ الناظرينَ إنْ ضحكَ، وله قلبٌ يرفرفُ لضحكةِ طفلٍ عابرٍ كل ما يريدُه يومَكم الذي يجودُ عليكم ببلاغةِ النصيحةِ، يومَكم الذي تمناه لكم دائماً، و لن يقولَ لأحد منكم لماذا أنت حزين هكذا؟!

قُلْ:

تعالوْا نقرأْ الأيام / بمرآةٍ واقفةٍ على رأسِها / لكم ما أنا فيه / ولن أطلبَ منكم سوى ما أنتم فيه / فأنا لستُ ابنَ الأيامِ السودِ / لي سنٌ تُعْجِبُ الناظرَ حين أضحكُ / ولي قلبٌ يرفرفُ لضحكة طفلٍ / كل ما أريده منكم / يومّكم الذي يجودُ عليكم ببلاغةِ النصيحة / يومّكم الذي تمنيتُه لكم دائماً / لم أقل لأحدٍ منكم / لماذا أنت حزين هكذا ..؟!

فبلاغةُ القولِ فيما يقولُ الفتى النجفيُّ، فيدفعنُا لنتستجمعَ ما استطعنا من خيرِ تَهَطّلِهِ الذي تنزّل من سورٍ لتكونَ تعاويذَ نستلهمُ منها فعلَ الكلام وبناءَ المعنى الرصينِ، فهذا المتيقنُ من قصيدتِه المتمكنُ من وعيهِ فيها لا ينامُ إلاّ في مُتحفٍ ارتضاه، فكان محجاً للزائرينَ بمواكبِ أفراحٍ يغادورنَ حزنَهم ويرفعونَ راياتِهم يدقّونَ طبولاً تجمعُ الغيمَ التائهَ ليقولَ : أنا من (سلمةَ) يافا، من البحرِ جئتُ أحملُ رائحةَ البرتقالِ الشهيِّ لنخيلِ الفتى العفيّ، فأنت ابنُ الغيمةِ يا صاحِ / مطرُهُم الذي يحلمونَ به بأعناقَ ضارعةٍ لذلك ينتظرونَ نزولَك / ولشفتيك المعاني التي ترطبُها حين ينشغلُ لسانُك بجملٍ تُطربُ السامعينَ، فانشدْ نشيدَك أيها الحسينيّ، ورتلْ لنصغيَ كما يليقُ بقصيدةٍ توضأتْ بماءِ نجفِك، وفرشتْ رملَ العتباتِ سَجادةً للصلاة.

يقول الفتى ... فـ " كم خيمةً عليك/ أنْ تبني/ لتزعمَ أن صحراءَك بلادُ العتبات؟"

ولعلني أتيقنُ تمامَ اليقينِ في هذا الإيجازِ عن رحلةٍ وراحلةِ الفتى النجفيّ أنّ ما كانَ هنا في ردهاتِ مُتحفِ الشاعر الفتى النجفيّ هو اليسيرُ من لوحاتِ الجمالِ التي ما زال الجابريُّ يبعثُ فيها قطرةً قطرةً، لتتاكثرَ شهوتُنا الدائمةُ في ما سيكونُ من غيماتٍ سيمطرُها لتُزهرَ حدائقَ الشعرِ بالقصيدةِ المختلفةِ العاليةِ الطافحةِ بالجمال.