فضائل شهر رمضان

الخطبة الأولى





ثم أما بعد:

قال الله عز وجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون [البقرة:185].

يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة.

يا من دامت خسارته، قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.

من لم يربح في هذا الشهر، ففي أي وقت يربح.

من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.

عباد الله هبت على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق .

لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل ،فلم يبق للعاصي عذر، يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، ويا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، قد مدت في هذه الأيام، موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعى: يا قومنا أجيبوا داعي الله [الأحقاف:31].

فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعى.

قال المعلّى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.

وقال يحي بن أبي كثير: كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان، وتسلمه مني متقبلا .

وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنة ))([1]).

وله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ))([2]) وفي رواية عند مسلم ((فتحت أبواب الرحمة)).

قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره، وحقيقته أن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر، وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين.

قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن إعجازهم عن الإغواء وتزيين الشهوات.

وهذا الشهر عباد الله مدرسة ربانية رحمانية تفتح أبوابها كل سنة شهرا كاملا يتدرب فيه العباد على طاعة الله عز وجل والإمساك عن معاصيه، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والصدقة والعمرة وسائر الطاعات .

روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : قال الله: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ))([3]).

والصيام في اللغة هو الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، فهو إمساك المكلف بالنية عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر إلى المغرب.

وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.

ومنها تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد يقسي القلب ويعميه، وخلو البطن من الطعام والشراب، ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للفكر والذكر.

ومنها أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بامتناعه عن هذه الشهوات في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك بتذكر من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.

ومنها أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاءً؛ لقطعه عن شهوة النكاح.

ولا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال، من الكذب والظلم والاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ))([4]).

قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الشراب والطعام.

وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

وكان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا.

والصائمون على طبقتين: أحدهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح، فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:24].

قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين .

وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم))([5]). وفي رواية: ((فإذا دخلوا أغلق)) وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا)).

والطبقة الثانية من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .

أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب

والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب

العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجلّ من ذلك .

من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت:5].

وقوله عز وجل في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) معناه أن الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].

وقيل الحكمة في إضافة الصيام إلى الله عز وجل، أن الصيام هو ترك حظوظ النفوس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها، من الطعام والشراب والنكاح، ولا يوجد ذلك في غيره من العبادات.

قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، وقيل: لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها دائما، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة، والله عز وجل يحب من عباده أن يعاملوه سرا.

وشهر رمضان له خصوصية بالقران كما قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [البقرة:185].

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنزل جملة واحدة من اللوح الحفوظ إلى بيت العزة في ليلة القدر ويشهد لذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر:1].

كان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.

والشهر عباد الله مجاهدة بالليل والنهار، فكما أن العبد يجاهد نفسه بالصيام ويلزمها بأخلاق الصائمين، يجاهد نفسه كذلك بالقيام تشبها بالصالحين. قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ))([6]).

وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يؤما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا قرب الفجر.

والشهر كذلك عباد الله تدريب على الإنفاق وكثرة الجود، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ([7]).

فقد كان النبي أجود الناس وكان جوده لله وفي ابتغاء مرضاته، وكان جوده يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.

ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود.

وفي تضاعف جوده في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:

منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، فإن العمل يشرف ويزداد ثوابه لشرف الزمان، أو المكان، أو لشرف العامل وكثرة تقواه.

ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.

ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء.

كما قال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ([8]).

فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل والجزاء من جنس العمل.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم الجنازة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق بصدقة ؟ قال أبو بكر: أنا، قال فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة ))([9]).

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وقد قال : ((الصيام جنة))([10]). وقال : ((الصدقة تطفئ الخطيئة))([11]).

قال أبو الدرداء: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.

ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.

ومنها: ما قاله الشافعي رحمه الله: أَحِبُّ للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان، اقتداء برسول الله ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم عن مكاسبهم، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا.

اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا.

وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

زاد الداعي