كثيراً ما يُردّدُ بعضُ مَن لا علمَ له بالنّصِ والموادِّ التي بُنيَ منها، وعُلومِ الآلَةِ التي تضبِطُه، والنّصوصِ التي دَخَلَت في جوفِه، أنّ العبرَةَ في الدّرسِ والتّحليلِ إنّما هي بالنّصّ لا بصاحبِه، وبالمُنجَزِ في ذاتِه، لا بشُروطِ توثيقِه ونسبتِه، وليكُنِ النّصُّ لَقيطَ قُمامةٍ. وإنّما العبرةُ عندَ هؤلاءِ الجَهَلَةِ بالنّصِّ لا بصاحبِه ولا بتوثيقِه،ويشْرَعونَ بعدّ ذلكَ في استخراجِ بلاغتِه بزعمِهِم، وأيّةُ بلاغةٍ؟ إنّها البَلاغةُ الجديدةُ ، وما الجديدُ في البَلاغةِ الجديدَةِ؟ الجديدُ في البَلاغَةِ الجَديدةِ الذي يميزُها عن البَلاغة الباليَةِ بضعُ كلماتٍ تَلوكُها الأسنةُ وتتداوَلُها بعضُ الأطروحاتِ التي تُناقَشُ هنا وهناك، وقوامُها كلامٌ في القارئ والمتلقّي ومُصطلَحاتٌ أجنبيّةٌ في جمالِ التلقّي وأفقِ الانتظارِ وما لَم يقُلْه النّصُّ وما اختَفى بين السّطورِ ويجبُ البحثُ عنه والتلصُّصُ عليْه، أمّا السطورُ الماثلَةُ فقَد ضلّ عنهُم أن يَقرَؤوها، وأمّا ما غابَ فهوَ محورُ القضيّة، ويبحثونَ في البَلاغةِ الجديدةِ أيضاً عن عتبات النّصّ ونهايةِ والنّصّ والنّصّ المُولَّدِ [بالمعنى المُعاصر] والنّصّ الباطنِ ولُغةِ لُغةِ النّصّ ، وغير ذلِك من مَفاهيم "البَلاغةِ الجَديدَة"، وإذا سألْتَهُم عن التشبيه التمثيليّ والمَجازِ العقليّ والمَجازِ المُرسَل والكنايَةِ والاستعارةِ المكنيةِ والطّباقِ والجناسِ التّامّ والنّاقصِ والإردافِ والتّتميمِ والتّذييلِ وحُسنِ ؤالتّنسقِ، وغيْرِها من المَفاهيمِ التي تدخُلُ في صَميمِ بَلاغَةِ النّصّ نظروا إليْك كارهينَ واتّهموكَ بأنّك ما زلتَ تُعْنى بالبَلاغةِ الباليَةِ. والحقيقَةُ أنّهُم لم يكُن لهُم في حياتِهِم العلميّةِ نصيبٌ كبيرٌ من الدّرْسِ والتّحصيلِ للبلاغَةِ الأصيلَةِ التي هي قوامُ مَبْنى النّصوصِ الفَصيحَةِ قديمِها وحَديثها التي منها يَقْتاتونَ وعلى تداوُلِها يستطعمونَ