بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
السَّلاَمُ عَلَيْكُم
الحمد له حقَّ حمده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، أمَّا بعد:
فهذه كلمةٌ كنتُ قد ألقيتُها في ختام إحدى الدَّورات العلميَّة المتعلِّقة بفضائل أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعنوان: «لماذا سِيَر الأصحاب»؟ تلخَّص فيها أنَّ محبَّتنا لأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتقليبَ النَّظر في أخبارهم ومتابعة ترديد الفكر وإجالة الطَّرف في سيرهم وأحوالهم والذَّبَّ عنهم = الباعثُ عليه والموجِب له أمورٌ متعدِّدة، اجتمع لي منها سبعةٌ إجمالًا، ويمكن عند التَّفصيل أن ترُفع إلى أكثر من ذلك، وهذه السَّبع هي:
1- موافقة لله تعالى في محبَّة أحبابه وموالاة أوليائه، فإنَّ المحبَّ يحبُّ من يحبُّ حبيبه ويبغض من يبغضه، فمحبَّة الصَّحابة ونصرتهم من تمام محبة الله تعالى، وقد قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي الذي اخرجه البخاري في صحيحه: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» فتوعَّد الله تعالى من يعادي أولياءه بالحرب نظير توعده آكل الرِّبا بها في قوله: «فإن لم تفعلوا فاأذنوا بحرب من الله ورسوله»، وهما ذنبان لم يأت في كلام الرَّبِّ جلَّ شأنه توعُّده على شيء من الذُّنوب بالحرب غيرهما، وبينهما رابطٌ خفيّ، هو أنَّ الرِّبا استطالةٌ في مال الفقير المقرَض بغير حقّ، كما أنَّ الكلام في أعراض الصَّالحين ومعاداتهم استطالةٌ في أعراضهم بغير حقّ كذلك، وفي سنَّة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما قد يُستفاد منه الإشارة إلى هذا الارتباط، وذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ أربى الرِّبا استطالةُ المرء في عرض أخيه». أخرجه أبوداود في «سننه» من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
2- حفظ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أصحابه وموافقته في محبة أحبابه ونصرة أنصاره، ففي الحديث المتَّفق عليه: «لا تسبُّوا اصحابي»، فيالله كم تحت تلك الياء من معاني التَّكريم والشَّفقة والحثِّ على مراعاتهم لجَنَابه صلَّى الله عليه وسلَّم وحقِّه فيهم.
3- استعمال الأدب الرَّباني الَّذي ربَّى الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذَّبُّ عن البرآء ودفع البهت عن أعراضهم، فالله تعالى قد دفع عن بعض عباده:
فدفع قول المشركين في خليله محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «وما صاحبكم بمجنون».
ودفع عن كليمه موسى فقال: «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرَّأه الله ممَّا قالوا».
ودفع عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قوله: «إنَّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم».
وقد جاء في نصوص الشَّرع من الحثِّ على ذلك وتعظيم ثوابه خير وفير، وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هم سادات الذَّابين عن البرآء النَّاهجين لهذا السَّنن.
وأوَّل راضٍ سيرة من يسيرها
4- المشي مع مقتضى مقصد القرآن من ذكرهم والثَّناء عليهم، فالله تعالى إنَّما ذكر من ذكر من أنبيائه وأوليائه وحالَهم في عبادته والخضوعِ له وجهاد أعدائه لأغراضٍ عديدة ذكرها الشَّيخ ابن عثيمين رحمه الله وغيرُه، ومنها: محبَّتهم والثَّناء عليهم والاقتداء بهم، فما ذكر الله أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وأثنى عليهم في التَّوراة والإنجيل والقرآن إلَّا لنقف على مآثرهم ونحبَّهم بآثارهم ونقتدي بهم في أحوالهم الفاضلة.
5- أنَّ الاقتداء بهم هو طريق النَّجاة الوحيد فالله تعالى قد قطع كلَّ طريق يوصل إليه وإلى جنَّته من غير طريقهم قال الله تعالى: «فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا» وقال: «والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والَّذين اتَّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه».
فجعل أهل رضاه الفائزين بجنَّته ثلاثة أصناف: مهاجرين وأنصارًا وتابعين لهم بإحسان، وقد انقطعت الهجرة والنُّصرة، وبقيت الثَّالثة، فيا خيبة من أضاعها.
6- تعلُّم الدِّين على الوجه الصَّحيح، وفهمُه الفهم القويم الَّذي رضي الله لعباده أن يدينوا له به، فإنَّهم رضي الله عنهم كانوا أعلم بالشَّرع وأوفق له في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وسائر أحوالهم وقد رأوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحبوه وشاهدوا تطبيقه لدين الله تعالى ومعلومٌ أنَّ الرَّائي المشاهد يفهم مالا يفهمه غيرُه، ويعي ما هو حجرٌ على سواه، ولهذا كان فهمُهم في نصوص الكتاب والسنَّة حجَّة على من سواهم.
ثمَّ إنَّ في سِيَرهم وأخبارهم زيادةً على فهم النُّصوص على وجهها أحكامًا أخرى مستفادةً كما استفيد كيف قتال البُغاة من تصرُّفهم في حروب الردَّة وقتال الخوارج، وكثيرٌ غير هذا من الأحكام أُخذ عنهم واستُفيد من طريقهم.
7- ثمَّ إنَّهم أسلافنا وأجدادنا ولهم علينا من الفضل ما لهم ومن الأيادي ما لا طاقة لنا بمكافئتهم عليه فلو كانوا على غير الصَّلاح، فقد فُطر البشر على تتبُّع أخبار أسلافهم والإشادة بمفاخرهم، فكيف وهم سادات الأمم الَّذين لم يخلق الله بعد الأنبياء أفضل منهم.
هذا وإنِّي لمَّا فرغت من نظم هذا العِقد، وإبرام هذا العَقد، سنح في خاطري أن أنظمها في أبيات حاصرة تجمع شتات السَّبع، فلم تُسعفني القريحة إلا بشبيهِ نظمٍ هو إلى الشِّعر الملحون أقرب منه إلى الشِّعر الموزون، فأرسلتها إلى أخي الشَّاعر السَّلفي أبي عبد الرَّحمن العكرمي فتكرَّم ـ حفظه الله ـ بإقامة أوزانها، وتصحيح قوافيها، فاعتدلت بعد اعوجاج، وثبتت على إثر ارتجاج، وهذه هي:
ما بالُنا وحديثُنا مذ أمــسـنا ** وصلٌ بــذكر ذخائر الأمجادِ
فأولئكم صحبُ النَّبي وإنـَّهـم ** لوداد ربٍّ مـنعمٍ و جــوادِ
نحيا بـحفظ مـحمَّد في صحبه ** ورجـاؤنا الحسنى بيوم مـعادِ
ولمقصد الذِّكر الحكيم بحَلْيهـم ** نـهفوا و نقفوا منهج الأسيـادِ
و فهومهم للنَّص طوقُ نـجاتنا ** إذ كلُّهم طـودٌ من الأطـوادِ
ودفاعنا عنهم سجيَّة صالـحٍ ** ذي فطرة ذودٍ عــن الأجدادِ
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله أصحابه.
وكتبه/ الشيخ خالد حمُّودة حفظه الله
8/ 5/ 1435.