السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
11_
عن
الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : "
حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك )
رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الشرح
كان النبي
صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم
ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ،
والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي بين
أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما
فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .
والراوي لهذا
الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه
وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا
الحديث منها .
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : (
دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما
في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 )
، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا
ريب ولا شك فيه .
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما
فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك
المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟ .
إن المتأمل لهذا الحديث مع
الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة
لبيان منهج التعامل مع ما يريب ، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن
ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان
إلى الورع والتقوى ، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن
بشير رضي الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة
في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله
ورسوله ، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .
ولسلفنا الصالح
رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي
تدل على تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن
الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك
بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : "
يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما
يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى
العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من
الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .
ولقد ظهر أثر الورع
جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن
أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله
عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له
الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت
لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ،
فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي
الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .
ومما ورد في سير من
كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى
العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني
؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : "
إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : "
ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال
: " أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .
وللفقهاء
وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب
كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك
ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا
أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه
قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة
السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه
متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .
وللحديث
زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق
طمأنينة ، والكذب ريبة ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما
يريبه ، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه
طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه
النبوي ، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن
من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة
القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى
أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من
أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه .
_______
12_
عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من
حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه ) حديث حسن رواه الترمذي وغيره .
الشرح
أرشدنا
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، إلى الطريق الذي يبلغ به العبد
كمال دينه ، وحسن إسلامه ، وصلاح عمله ، فبيّن أن مما يزيد إسلام المرء
حسنا ، أن يدع ما لا يعنيه ولا يفيده في أمر دنياه وآخرته .
وفي قوله
صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء ، ترك ما لا يعنيه ) توجيه
للأمة بالاشتغال بما ينفعها ، ويقرّبها من ربّها ، كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( احرص على ما ينفعك ) فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الأوقات
بالخيرات ، فإن الدنيا مزرعة للآخرة ، وعمر الدنيا قصير ، فهو كظل شجرة ،
يوشك أن يذهب سريعا ، لذا فالإنسان العاقل الذي جعل الآخرة همّه ، والجنة
مأربه ، يغتنم أوقاته كلها ، وقد أحسن الشاعر إذ قال :
اغتنم ركعتين في ظلمة الليــ ـل إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالخوض في البـا طـل فاجعل مكانه تسبيحا
إن
اهتمام المرء وانشغاله بما يعنيه فيه فوائد عظيمة ، فالنفس إن لم تشغلها
بالطاعة شغلتك بالمعصية ، فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه ، وأوشك اشتغاله
بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال ، كما أن انشغال المرء بنفسه
وبما يعينه فيه حفظ للوقت ، ومسارعة في الخير ، فضلا عما يورثه ذلك على
مستوى المجتمع من حفظ الثروات ، وتنمية المكتسبات ، وإشاعة روح الجدية
والعمل ، والإخاء والتعاون .
والتَرك المقصود في هذا الحديث يشمل
أمورا كثيرة ، منها ترك فضول النظر ، لما في التطلع إلى متاع الدنيا من
إفساد للقلب ، وإشغال للبال ، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في
تفسير قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة
الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } ( طه : 131 ) : " أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا
تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب
اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك
كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار
المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب
سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة " .
ومن
الأمور التي يشملها الترك في الحديث : ترك فضول الكلام ، ولغو الحديث ؛
لأنه يتعلق بجارحة خطيرة ، ألا وهي جارحة اللسان ، يشهد لما قلناه ما جاء
في الرواية الأخرى لهذا الحديث : ( إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما
لا يعنيه ) رواه أحمد
وقد امتدح الله عباده المؤمنين بقوله : { والذين
هم عن اللغو معرضون } ( المؤمنون : 3 ) ، فمن صان لسانه عن فضول القول ،
سَلِمَ من انزلاقه فيما لا يحبه الله ويرضاه ، وحمى منطقه من الغيبة
والنميمة ، ولذلك حث الشرع في مواطن كثيرة على لزوم الصمت إلا بما فيه ذكر
الله تعالى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، قال الله عزوجل : { لا
خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } (
النساء : 114 ) .
وينبغي أن يُعلم أن الضابط الصحيح لترك ما لا يعني
هو الشرع ، لا مجرد الهوى والرأي ، لذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم
أمارة على حسن إسلام المرء ، فإن البعض يدع أمورا قد دلّت عليها الشريعة ،
بدعوى أنها تدخّل في شؤون الآخرين ، فيعرض عن إسداء النصيحة للآخرين ،
ويترك ما أمره الله به من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بحجة احترام
الخصوصيات ، وكل هذا مجانبة للشرع ، وبعد عن هدى النبوة ؛ فإنه صلى الله
عليه وسلم كان تاركا لما لا يعنيه ، ومع ذلك كان ناصحا مرشدا ، آمرا
بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، عاملا بأمر الله في حلّه وترحاله .
وخلاصة
القول : إن في الحديث إرشاداً لما فيه حفظ وقت الإنسان من الضياع ، ودينه
من الصوارف التي تصرفه عن المسارعة في الخيرات ، والتزود من الصالحات ، مما
يعين العبد على تزكية النفس ، وتربيتها على معاني الجد في العمل ، نسأل
الله تعالى أن يعيننا على حسن استغلال الأوقات ، وأن يجنبنا فضول الملذات ،
إنه جواد كريم .
_________
13_
عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه ) ، رواه البخاري و مسلم .
الشرح
حرص
الإسلام بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى ، حتى
ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة ، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما ينظم
علاقتهم بعضهم ببعض ؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم ، ولا
يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته
الشخصية ، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط ، متين الأساس .
ومن
أجل هذا الهدف ، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحقيق مبدأ
التكافل والإيثار ، فقال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ،
فبيّن أن من أهم عوامل رسوخ الإيمان في القلب ، أن يحب الإنسان للآخرين
حصول الخير الذي يحبه لنفسه ، من حلول النعم ، وزوال النقم ، وبذلك يكمل
الإيمان في القلب .
وإذا تأملنا الحديث ، لوجدنا
أن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس ، يتطلب منها سموا في التعامل ،
ورفعة في الأخلاق مع الغير ، انطلاقا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل ، وهذا
يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس ، ويتغاضى عن هفواتهم ، ويعفو عمن
أساء إليه ، وليس ذلك فحسب ، بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم ،
ويعود المريض منهم ، ويواسي المحتاج ، ويكفل اليتيم ، ويعيل الأرملة ، ولا
يألو جهدا في تقديم صنائع المعروف للآخرين ، ببشاشةِ وجه ، وسعة قلب ،
وسلامة صدر .
وكما يحب للناس السعادة في دنياهم ،
فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة ، لهذا فهو يسعى دائما إلى
هداية البشرية ، وإرشادهم إلى طريق الهدى ، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى
: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } (
فصلت : 33 ) .
ويتسع معنى الحديث ، ليشمل محبة
الخير لغير المسلمين ، فيحب لهم أن يمنّ الله عليهم بنعمة الإيمان ، وأن
ينقذهم الله من ظلمات الشرك والعصيان ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في
رواية الترمذي لهذا الحديث ، قال صلى الله عليه وسلم : ( وأحب للناس ما تحب
لنفسك تكن مسلما ) .
ولنا في رسول الله صلى الله
عليه وسلم خير أسوة في حب الخير للغير ، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن
يدّخر جهدا في نصح الآخرين ، وإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة ،
روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه : (
يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرنّ على
اثنين ، ولا تولين مال يتيم ) .
أما سلفنا الصالح رحمهم الله ،
فحملوا على عواتقهم هذه الوصية النبويّة ، وكانوا أمناء في أدائها على خير
وجه ، فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " إني لأمر على الآية من كتاب
الله ، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم " ، ولما أراد محمد بن
واسع رحمه الله أن يبيع حمارا له ، قال له رجل : " أترضاه لي ؟ " ، فردّ
عليه : " لو لم أرضه لك ، لم أبعه " ، وهذه الأمثلة وغيرها مؤشر على السمو
الإيماني الذي وصلوا إليه ، والذي بدوره أثمر لنا هذه المواقف المشرفة.
ومن
مقتضيات هذا الحديث ، أن يبغض المسلم لأخيه ما يبغضه لنفسه ، وهذا يقوده
إلى ترك جملة من الصفات الذميمة ، كالحسد والحقد ، والبغض للآخرين ،
والأنانية و الجشع ، وغيرها من الصفات الذميمة ، التي يكره أن يعامله الناس
بها
وختاما : فإن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة
مجتمع فاضل ، ينعم أفراده فيه بأواصر المحبة ، وترتبط لبناته حتى تغدو
قوية متماسكة ، كالجسد الواحد القوي ، الذي لا تقهره الحوادث ، ولا تغلبه
النوائب ، ، فتتحقق للأمة سعادتها ، وهذا هو غاية ما نتمنى أن نراه على أرض
الواقع ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
__________________________
14_
عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايحل
دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث
: الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه
البخاري و مسلم .
الشرح
ابتعث
الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الخاتم ، الذي
يخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان ، إلى
عدل الإسلام ، فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين ، والتزم بأحكامه ، صار
فردا من أفراد المجتمع الإسلامي ، يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له ، ومن
جملة هذه الحقوق ، عصمة دمه وماله وعرضه .
وإعطاء
المسلم هذه الحقوق له دلالته الخاصة ، فالحديث عن العصمة بكافة صورها هو
حديث عن حرمة المسلم ، ومكانته في هذا المجتمع ، وقد قرر النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الحقوق يوم حجة الوداع فقال : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم
حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) رواه مسلم ، وقال
أيضا : (من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي
له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري .
والشريعة
الإسلامية - بما تكفله من هذه الحقوق - تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لبنات
المجتمع المسلم ، وتعميق الروابط بين المؤمنين ، وبهذا يتحقق لهذا المجتمع
أمنه ، وسلامة أفراده .
ولكن المشكلة تكمن في أولئك الأفراد
، الذين يشَّكل وجودهم خطرا يهدد صرح الأمة ، ولم تكن هذه الخطورة مقتصرة
على فسادهم الشخصي ، أو وقوعهم في بعض المحرمات وتقصيرهم في حقوق ربهم ،
إنما تعدت إلى انتهاك حقوق الآخرين ، وتهديد حياة الاستقرار التي يعيشها
هذا المجتمع ، فمن هنا رفع الإسلام عن هؤلاء المنعة الشرعية ، وأسقط حقهم
في الحياة .
وفي الحديث الذي بين أيدينا بيان لتلك
الأمور التي من شأنها أن تزيل العصمة عن فاعلها ، وتجعله مهدر الدم ، وهي
في قوله صلى الله عليه وسلم : ( الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك
لدينه المفارق للجماعة ) .
فأما الزاني
المحصن ، فإن الحكم الشرعي فيه هو الرجم حتى الموت ، ولعل في حديث عبادة بن
الصامت رضي الله عنه ، دلالة واضحة على هذا الحكم ، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( ..والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم ) رواه مسلم ، وقد رجم
النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا و الغامدية رضي الله عنهما في عهده ، وأجمع
المسلمون على هذا الحكم ، وكان فيما نزل من القرآن ، ثم نسخ لفظه وبقي
حكمه : " والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله ، والله
عزيز حكيم " - انظر مجموع الفتاوى 20/399 - .
وليس
ثمة شك في أن هذا الحكم الذي شرعه الله تعالى في حق الزاني المحصن ، هو
غاية العدل ، وهو الدواء الوحيد لقطع دابر هذه الظاهرة ، فإن الله سبحانه
وتعالى أعلم بعباده ، وهو الذي خلقهم ، فهو أدرى بما يصلحهم وينفهم ، لأنه
أحكم الحاكمين ، ولكنا إذا أردنا أن نتلمس الحكمة في تشريع الله تعالى لهذا
النوع من العقوبة ، بحيث اختصت في هذا الحد من الحدود ولم تشرع في غيره ،
فنقول : إذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نتأمل الآثار المدمرة التي يخلفها
مثل هذا الفعل الشنيع على جميع المستويات ، فهو ليس انتهاكا لحقوق الآخرين
واعتداء على أعراضهم فحسب ، بل هو جريمة في حق الإنسانية ، وإفساد للنسل
والذرية ، وسبب في اختلاط الأنساب ، فلهذا وغيره ، جاء حكم الله تعالى في
الزاني المحصن على هذا النحو .
ويجدر بنا أن نشير
إلى أن هذه العقوبة لا تتم إلا عندما يقرّ الزاني بما فعله من تلقاء نفسه ،
أو بشهادة أربعة شهود على حصول ذلك منه ، وهذا في الحقيقة قد يكون متعذراً
، ومن ناحية أخرى دعت الشريعة من زلت قدمه بهذه الخطيئة أن يستر على نفسه
ولا يفضحها ، ويتوب إلى الله عزوجل ، ولا داعي لفضح نفسه ، ولهذا كان النبي
صلى الله عليه وسلم يراجع من يعترف بفعله مرات ومرات ، لعله يتراجع عن
اعترافه هذا ، ونلمس ذلك جليا في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعلك قبلت أو
غمزت أو نظرت ) البخاري ، ومن هنا نرى أن الشريعة وضعت هذا الحد ضمن قيود
واضحة ، وضوابط محددة ؛ حتى لا يطبق إلا في نطاق لازم ، وفي الموضع الصحيح .
إن
ذلك يعطينا تصورا واضحة بأن هذه العقوبة ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها ،
ولكنها وسيلة لاستئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها ، وهذا ما أثبته التاريخ
في العهد النبوي ، فإن كتب السير لم تنقل لنا حصول هذه الجريمة الخلقية إلا
في عدد محدود للغاية .
ثم ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم أمرا آخر يحل به دم المسلم وهو : ( النفس بالنفس ) أي : قتل
العمد ، وقد أجمع العلماء أن قاتل النفس المعصومة عمدا مستحق للقتل إذا
انطبقت عليه الشروط ، انطلاقا من قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس } ( المائدة :45 ) ، وهذا يشمل أن يكون المقتول أو القاتل
ذكرا أم أنثى ، وهذا العموم مفهوم من الآية السابقة ، يؤيد ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم صح عنه أمر بقتل يهودي قصاصا من امرأة .
وإذا
نظرنا إلى قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ( البقرة
:179) ، لأدركنا عظم الحكمة التي لأجلها شرع القصاص في الإسلام ، فالقصاص
بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا ، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة ، بل هو أمر
أعظم من ذلك ، إنه حياة للأمم والشعوب ، فإن القاتل إذا علم أن حياته ستكون
ثمنا لحياة الآخرين ، فسوف يشكّل ذلك أكبر رادع له عن فكرة القتل ، وبهذا
تستقيم الحياة ، وتعيش المجتمعات في أمن وطمأنينة .
وثالث
الأمور التي تهدر الدم وتسقط العصمة ، الردة عن دين الله تعالى ، لقوله
صلى الله عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أي : المفارق
لجماعة المسلمين ، ويعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والردة
قد تكون بالقول الصريح : كأن يكفر بالله صراحة ، أو بالاعتقاد : كأن يجحد
شيئا معلوما من الدين بالضرورة ، أوإنكار النبوة أو البعث ، أو تكون
باستحلال ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، كما قد تكون بالفعل : كمن
رمى المصحف في مكان القاذورات - والعياذ بالله - أو سجد لصنم ، فهذه أمثلة
على بعض ما يخرج المرء من دين الله .
وينبغي
أن نشير هنا إلى أنه قد ورد في أحاديث أخرى القتل بغير هذه الثلاث ، فقد
ورد قتل اللوطي ، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به )
رواه الإمام أحمد في مسنده ، و أبوداود و الترمذي ، كما ورد الأمر بقتل
الساحر ، وقتل من أراد أن يشق عصا المسلمين ، ومن أراد الإفساد في الأرض
وقطع الطريق ، ولعلنا نلاحظ أن هذه الأصناف المذكورة تندرج ضمنا تحت
الأنواع الثلاثة التي تناولها الحديث .
إن هذه
التشريعات التي أحكمها الله سبحانه وتعالى هي صمام الأمان الذي يحفظ للأمة
أمنها واستقرارها ، وبها تصان حقوق الفرد والمجتمع ، فحري بنا أن نعقلها
ونتدبرها ، وأن نطبقها على واقعنا كما سطرناها في كتبنا
_____________________________
15_عن
أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم
ضيفه ) رواه البخاري و مسلم .
الشرح
نشأ
العرب في جاهليتهم على بعض القيم الرفيعة ، والخصال الحميدة ، وسادت بينهم
حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من شخصيتهم ، يفتخرون بها على من سواهم ،
ويسطّرون مآثرها في أشعارهم .
وتلك
الأخلاق العظيمة التي امتازوا بها ، لم تأت من فراغٍ ، ولكنها نتاج طبيعي
من تأثّر أسلافهم بدعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام ، حتى اعتادوا عليها ،
وتمسّكوا بها عند معاملتهم للآخرين ، ثم ما لبث فجر الإسلام أن بزغ ،
فجاءت تعاليمه لترسي دعائم تلك الأخلاق ، وتعمق جذورها في نفوس المؤمنين ،
والتي كان منها : الحث على إكرام الضيف ، والحفاوة به .
إن
إكرام الضيف يمثل سمة بارزة للسمو الأخلاقي الذي تدعو إليه تعاليم الشريعة
، والتخلق بها يعدّ مظهرا من مظاهر تمام الإيمان وكماله ، ويكفينا دلالة
على ذلك ، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بين أيدينا : ( من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه )
وليس
المقصود من الحديث نفي مطلق الإيمان عمّن لم يأت بهذا الخلق - أو غيرها من
الخصال المذكورة - ، إنما أريد به المبالغة في الحث على المسارعة في
الامتثال لهذه الأوامر ، كما يقول القائل : " إن كنت ابني فأطعني " ،
ويعنون بذلك تشجيع الولد على طاعة أبيه ، فهو إذا : تشجيع على التمسك بتلك
الفضائل .
وقد وعى المؤمنون في الصدر الأول ذلك
جيدا ، وفهموا المراد منه ، فصار للضيافة شأن عظيم في حياتهم ، فلا عجب أن
تنقل لنا كتب السير في هذا المضمار من الأمثلة أروعها ، ومن المواقف أسماها
، يأتي في مقدمتها ما رواه الإمام مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتاه ضيف ، فلم يجد ما يضيفه به ، فقال لأصحابه : ( من يضيف هذا
الليلة رحمه الله ) فقام رجل من الأنصار فقال : " أنا يا رسول الله " ،
فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : " هل عندك شيء ؟ " قالت : " لا ، إلا
قوت صبياني " ، قال : " فعلّليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفيء السراج ،
وأريه أنّا نأكل ، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه " ، قال :
فقعدوا وأكل الضيف ، فلما أصبح ، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ) ، إن هذا الموقف العظيم ، وهذا
التفاني في إسداء الكرم للضيف ، لثمرة من ثمار إيمانهم العميق بثواب الله
وأجره .
وبعد أن عرفنا مكانة الضيافة في
منظومة الأخلاق ، وقدرها عند الله ، فإنه يجدر بنا أن نقف وقفة سريعة مع
بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها في الضيافة ، فمن ذلك : أن يدعو الإنسان
لضيـافته الأتقياء والصالحين ، ويتجنب دعوة الفسقة من الناس ، عملا بقول
النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولا يأكل طعامك إلا تقي ) ، كذلك فإنه يدعو
لضيافته دون تمييز بين الفقير والغني ، فإن هذا من التواضع الذي ينبغي أن
يتحلّى به المؤمن ، وقد جاء في الحديث : ( شر الطعام طعام الوليمة ، يدعى
لها الأغنياء ويترك الفقراء ) متفق عليه ، فإذا حضر ضيوفه ، يستقبلهم عند
بابه ، ويبشّ عند قدومهم ، ويطيب في حديثه معهم ، وقد سئل الأوزاعي رحمه
الله : " ما إكرام الضيف ؟ " ، قال : " طلاقة الوجه ، وطيب الكلام " ، وقال
الشاعر :
وإني لطلق الوجه للمبتغي القــِرى وإن فنــائي للقــرى لرحيب
أضاحك ضيفي عند إنزال رحلـــه فيخـصب عنـدي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكثر القِرى ولكنـما وجه الكــريم خصيب
فإذا
حضر وقت الطعام ، فإنه يأتيهم بما تسير له ، ولا ينبغي له أن يتكلف ما
لايستطيع ؛ فإن هذا مخالف للهدي النبوي ، وفيه أذى وإحراج للضيف من ناحية
أخرى ، ومن إكرام الضيف : أن يخرج معه إلى باب الدار عند توديعه ؛ فإن ذلك
يشعره بمدى الحفاوة به ، والفرحة بحصول زيارته .
ولئن
كان الإسلام قد أولى العناية بحق الضيف على بعده وقلّة حضوره ، فإن
اهتمامه بالجار من باب أولى ، وحسبنا دلالة على ذلك : أن الله تعالى قرن
الأمر بالإحسان إليه مع الأمر بعبادته سبحانه ، قال تعالى : { واعبدوا الله
ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين
والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب } ( النساء : 36 ) ، وأكد
النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق في قوله : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار
حتى ظننت أنه سيورثه ) .
ومن هنا كان إيذاء الجار
من كبائر الذنوب عند الله عزوجل ، بل هو منافٍ لكمال الإيمان ، وقد روى
البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله لا يؤمن ،
والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ) ، قيل : "ومن يا رسول الله ؟ " ، قال : (
الذي لا يأمن جاره بوائقه ) ، أي لا يسلم من شره وأذاه .
ولاشك
أن الإحسان إلى الجار قربة عظيمة إلى الله تعالى ، ومن هنا جعل الإسلام له
حقوقا عديدة ، من جملتها : أن يمدّ جسور المحبة بينه وبين جيرانه ، وأن
يأتي كل ما من شأنه أن يوطّد هذه العلاقة ، ويزيدها قوة ، فيتعهّده دائما
بالزيارة والسؤال عن أحواله ، ويمدّ له يد العون في كل ما يحتاجه ، ويقف
معه في الشدائد والنوائب التي قد تصيبه ، ويشاركه في أفراحه التي تسعده .
ومن
حقوقه أيضا : أن يستر ما يظهر له من عيوبه ، ويحفظ عينه من النظر في
عوراته ، ويتواصل معه بالهدايا بين الحين والآخر ؛ فإن ذلك يزيد الألفة ،
ويقوي المحبة ، مهما كانت الهدية قليلة القدْر ، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( لا تحقرن جارة جارتها ، ولو فرسن شاة ) رواه البخاري و مسلم ،
والفرسن : هو عظم قليل اللحم .
إن الإحسان إلى
الجار ، والكرم مع الضيف ، يعدان من مظاهر التكافل الاجتماعي الذي يدعو
إليه الإسلام ، هذا وقد ذكر الحديث شعبة أخرى من شعب الإيمان ، وهي
المتمثلة في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ،
فليقل خيرا أو ليصمت ) ففيه دعوة إلى الكلمة الطيبة من ناحية ، ومن ناحية
أخرى تحذير من إطلاق اللسان فيما لا يرضي الله تبارك وتعالى .
وقد
تظافرت نصوص الكتاب والسنة على بيان خطر هذه الجارحة ، فكم من كلمة أودت
بصاحبها في نار جهنم ، وكم من كلمة كانت سببا لدخول الجنة ، وقد ثبت في
البخاري و مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد ليتكلم
بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) .
وهكذا
أيها القارئ الكريم ، يتبين لنا مما سبق بعضا من الجوانب المشرقة والأخلاق
الرفيعة ، التي يدعو إليها الإسلام ، ويحث على التمسك بها ، فما أجمل أن
نتخلق بها ، ونتخذها نبراسا ينير لنا الطريق .
_____________________________
16_عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أوصني " ، فردّد ، قال : ( لا تغضب ) رواه البخاري .
الشرح
خلق
الله تعالى آدم عليه السلام من تراب الأرض بجميع أنواعه - الأبيض منها
والأسود ، والطيب والرديء ، والقاسي واللين - ، فنشأت نفوس ذرّيته متباينة
الطباع ، مختلفة المشارب ، فما يصلح لبعضها قد لا يناسب غيرها ، ومن هذا
المنطلق راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وصاياه للناس ، إذ كان يوصي
كل فرد بما يناسبه ، وما يعينه في تهذيب نفسه وتزكيتها .
فها
هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتسابقون إليه كي يغنموا منه
الكلمة الجامعة ، والتوجيه الرشيد ، وكان منهم أبو الدرداء رضي الله عنه -
كما جاء في بعض الروايات - ، فأقبل بنفس متعطشة إلى المربي العظيم ، يسأله
وصية تجمع له أسباب الخير في الدنيا والآخرة ، فما زاد النبي صلى الله عليه
وسلم على أن قال له : ( لا تغضب ) .
وبهذه
الكلمة الموجزة ، يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطر هذا الخلق الذميم
، فالغضب جماع الشر ، ومصدر كل بليّة ، فكم مُزّقت به من صلات ، وقُطعت به
من أرحام ، وأُشعلت به نار العداوات ، وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات
التي يندم عليها صاحبها ساعة لا ينفع الندم .
إنه
غليان في القلب ، وهيجان في المشاعر ، يسري في النفس ، فترى صاحبه محمر
الوجه ، تقدح عينيه الشرر ، فبعد أن كان هادئا متزنا ، إذا به يتحول إلى
كائن آخر يختلف كلية عن تلك الصورة الهادئة ، كالبركان الثائر الذي يقذف
حممه على كل أحد .
ولهذا كان النبي صلى
الله عليه وسلم يكثر من دعاء : ( اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب
والرضا ) رواه أحمد ، فإن الغضب إذا اعترى العبد ، فإنه قد يمنعه من قول
الحق أو قبوله ، وقد شدّد السلف الصالح رضوان الله عليهم في التحذير من هذا
الخلق المشين ، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : " أول الغضب
جنون ، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب " ، ويقول عروة بن الزبير رضي
الله عنهما : "مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب ؛ فإن شدة الغضب
مفسدة لفؤاد الحكيم " ، وأُثر عن أحد الحكماء أنه قال لابنه : "يا بني ، لا
يثبت العقل عند الغضب ، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل
الناس غضباً أعقلهم "، وقال آخر : " ما تكلمت في غضبي قط ، بما أندم عليه
إذا رضيت ".
ومن الصفات التي امتدح الله بها عباده
المؤمنين في كتابه ، ما جاء في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } ( آل
عمران : 134 ) ، فهذه الآية تشير إلى أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة مراتب :
فمنهم من يكظم غيظه ، ويوقفه عند حده ، ومنهم من يعفوا عمن أساء إليه ،
ومنهم من يرتقي به سمو خلقه إلى أن يقابل إساءة الغير بالإحسان إليه .
وهذا
يقودنا إلى سؤال مهم : ما هي الوسائل التي تحد من الغضب ، وتعين العبد على
التحكم بنفسه في تلك الحال ؟ : لقد بينت الشريعة العلاج النافع لذلك من
خلال عدة نصوص ، وهو يتلخص فيما يأتي :
أولا : اللجوء
إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء ، فالنفوس بيد الله تعالى ، وهو المعين
على تزكيتها ، يقول الله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ( غافر :
60 ) .
ثانيا : التعوذ بالله من الشيطان
الرجيم ، فهو الذي يوقد جمرة الغضب في القلب ، يقول الله تعالى : { وإما
ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } ( فصلت : 36 ) ، وقد مرّ النبي صلى
الله عليه وسلم على رجلين يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة ، لو قالها ذهب عنه ما
يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ، ذهب عنه ما يجد ) ، وعلى الغاضب أن
يكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار ؛ فإن ذلك يعينه على طمأنينة القلب
وذهاب فورة الغضب .
ثالثا : التطلع إلى ما
عند الله تعالى من الأجور العظيمة التي أعدها لمن كظم غيظه ، فمن ذلك ما
رواه أبو داود بسند حسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كظم غيظا
وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق ، حتى
يخيره من أي الحور شاء ) .
رابعا : الإمساك عن الكلام ،
ويغير من هيئته التي عليها ، بأن يقعد إذا كان واقفا ، ويضطجع إذا كان
جالسا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس
، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) رواه أبو داود .
خامسا : الابتعاد عن كل ما ما يسبب الغضب ، والتفكر فيما يؤدي إليه.
سادسا : تدريب النفس على الهدوء والسكينة في معالجة القضايا والمشاكل ، في شتى شؤون الدنيا والدين .
______________________________
17_عن
أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
الشرح
إن
المتطلع إلى مبادئ ديننا الحنيف ، ليبهره جوانب التكامل في تشريعاته ، مما
يجعله موقنا بتفرد الإسلام في شموليته ، فهو يدعو الإنسان إلى أن يحسن
صلته بخالقه ، وفي الوقت ذاته يضع الأسس المتينة ، والقواعد الراسخة في
تعامله مع غيره من الخلق .
ومن هنا
تظافرت نصوص الكتاب والسنة مؤيدة لهذه الرؤية ، وموضحة لمعالمها ، وجعلت
الإحسان هو الأساس الذي تنبثق منه هذه العلاقات ، وقد نبهنا الله سبحانه
وتعالى إلى ذلك في كتابه العزيز فقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } (
النحل : 90 ) ، فبيّن وجوب العمل بمقتضى الإحسان ، وأحاط العاملين بها
بمعيّته الخاصة ، وشملهم برعايته وتأييده ، كما قال عزوجل : { وإن الله لمع
المحسنين } ( العنكبوت : 69 ) ، كذلك فإنه قد بيّن السبل لتحقيق ذلك في
الكثير من المواضع ، ومن جملتها ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي جاء
موضحا كيفية الإحسان إلى الخلق .
فبعد أن قرّر
النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإحسان في كل ميدان ، وعلى كل شيء ، وأكّد
على ذلك بقوله : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ، عرّج بعدها بذكر
مثالين اثنين ، يلزم الإنسان المسلم فيهما مراعاة الإحسان ، والمحافظة عليه
.
ففي قوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) ،
توجيه نبوي إلى الإحسان في هيئة القتل ، ويكون ذلك بالإسراع في إزهاق النفس
التي أبيح دمها حال القصاص أو حال الحرب ، ولئن جاز للمسلمين معاملة من
حاربهم بالمثل ، فإن ذلك لا يبيح لهم التمثيل بالقتلى ، والتشويه للجثث
بدون سبب شرعي ، لما في ذلك من منافاة للمثل العليا التي يدعو إليها ديننا
الحنيف .
ويدخل ضمن الأمر بإحسان القتل ، تحريم
التعذيب بالنار ، وليس ذلك للبشر فحسب ، بل حتى للحيوانات والحشرات ، فقد
روى الإمام البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا
تعذبوا بعذاب الله ) ؛ وهذا يؤكد حرص الإسلام على اختيار أيسر الطرق
المؤدية إلى خروج الروح عند تحتّم القتل .
ثم
انتقل الحديث بعد ذلك إلى قضية الإحسان في الذبح ، بآدابه الراقية التي
تجسد معاني الرفق بالحيوان ، وقد ذكر العلماء هذه الآداب في كتب الفقه ،
وأسهبوا في شرحها ، فمن ذلك : أن يذبح البهيمة بآلة حادة ، تعجّل من خروج
روحها ، وإنهار دمها ، فلا تتعذب كثيرا ، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد و
ابن ماجة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بحد الشفار " ، وقد جعل العلماء ذلك شرطا في آلة الذبح ، كما جاء في
الحديث : ( ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكلوه ، ليس السن والظفر )
رواه الشيخان .
ومن الإحسان في الذبح ، ألا يقوم
الذابح بحد شفرته أمام الذبيحة ، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
رجل واضع رجله على صفحة شاة ، وهو يحد شفرته ، وهي تلحظ إليه ببصرها فقال :
( أتريد أن تميتها موتات ؟، هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم
، وكذلك فإنه يستحب له أن لا يذبح ذبيحة بحضرة أخرى ، ولا يظهر السكين
أمام الذبيحة إلا عند مباشرته للذبح .
ومن الرفق
بالذبيحة ، أن تساق إلى المذبح سوقا هينا ، فلا يجرّها بأذنها ، أو يسوقها
سوقا عنيفا ، كما ذكر ذلك الإمام أحمد ، فإذا أراد أن يذبحها ، فعليه أن
يضجعها على شقها الأيسر برفق ، لما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن
عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن ،
فأتى به ليضحي به ، فقال لها : ( يا "عائشة" ، هلمي المدية) ، ثم قال : (
اشحذيها بحجر ) ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ، ثم ذبحه " ، وقد
صرّح الإمام النووي بوقوع الإجماع على هذه المسألة ، واستحب الشافعية أيضا
عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها .
وبعد أن يسمّي ،
يسرع في قطع الأوداج ، وإنهار الدم ، حتى يريح الذبيحة ، ولا يباشر بقطع
شيء منها ، أو سلخها ، حتى تتم الذكاة وتخرج الروح ، ولا ينبغي له أن يبالغ
في الذبح حتى يقطع الرأس ، فإن ذلك مناف للإحسان إليها .
إن
كل ما سبق ، يزيد المرء إيمانا بكمال هذا الدين ، وتناوله لجميع نواحي
الحياة ، وبهذا المنهج الرباني الذي يتألق سموا بتلك المعاني السامية ،
يمكن للبشرية أن تخرج من ظلمات التيه ، لتقتبس من نور الإسلام ، وترتبط
بخالقها جلّ وعلا برباط محكم وثيق ، فتعيش آمنة مطمئنة ، وهذا ما نتطلع إلى
حصوله بإذن الله العلي القدير .
______________________________
18_
عن أبي ذر جندب بن جنادة ، و أبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة
الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن .
الشرح
التقوى
هي سفينة النجاة ، ومفتاح كل خير ، كيف لا ؟ وهي الغاية العظمى ، والمقصد
الأسمى من العبادة ؟ ، إنها محاسبة دائمة للنفس ، وخشية مستمرة لله ، وحذر
من أمواج الشهوات والشبهات التي تعيق من أراد السير إلى ربه ، إنها الخوف
من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل
.
من هنا كانت التقوى هي وصية الله
للأولين والآخرين من خلقه ، قال تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } ( النساء : 131 ) ، وهي وصية النبي صلى
الله عليه وسلم لجميع أمته ، ووصية السلف بعضهم لبعضهم ، فلا عجب إذا أن
يبتدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحته ل معاذ بن جبل و أبي ذر رضي
الله عنهما .
والتقوى ليست كلمة تقال ، أو شعاراً
يرفع ، بل هي منهج حياة ، يترفّع فيه المؤمن عن لذائذ الدنيا الفانية ،
ويجتهد فيه بالمسابقة في ميادين الطاعة ، ويبتعد عن المعاصي والموبقات ،
وقد جسد أبي بن كعب رضي الله عنه هذا المعنى لما سئل عن التقوى ؟ فقال : "
هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك
عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى " وقد أخذ ابن المعتز
رحمه الله هذا المعنى ، وصاغه بأبيات بديعة من الشعر فقال :
خل الذنوب صغيـــرها وكبيــرها ذاك التقـى
واصنع كمـــاش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن صغيــرة إن الجبـال من الحصى
ومن
تمام التقوى ، أن يترك العبد ما لا بأس به ، خشية أن يقع في الحرام ،
ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فمن اتقى الشبهات ، فقد
استبرأ لدينه وعرضه ) رواه مسلم ، وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي
الله عنه : "تمام التقوى ، أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ،
وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، فيكون حجابا بينه
وبين الحرام ، فإن الله قد بيّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : { فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 - 8 ) "
، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ، ولا شيئا من الشر أن تتقيه .
وفي
قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) تنبيه للمؤمن على
ملازمة التقوى في كل أحواله ، انطلاقاً من استشعاره لمراقبة الله له في كل
حركاته وسكناته ، وسره وجهره ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله
حيثما كنت ) إشارة إلى حقيقة التقوى ، وأنها خشية الله في السرّ والعلن ،
وحيث كان الإنسان أو صار ، فمن خشي الله أمام الناس فحسب فليس بتقي ، وقد
قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ،
ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } ( ق : 33 - 34 ) .
وقد يظن ظان أن
المتقي معصوم من الزلل ، وهذا خطأ في التصور ؛ فإن المتقي قد تعتريه الغفلة
، فتقع منه المعصية ، أو يحصل منه التفريط في الطاعة ، وهذه هي طبيعة
البشر المجبولة على الضعف ، ولكن المتقي يختلف عن غيره بأنه إذا تعثّرت به
قدمه ، بادر بالتوبة إلى ربه ، والاستغفار من ذنبه ، ولم يكتف بذلك ، بل
يتبع التوبة بارتياد ميادين الطاعة ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، كما
أمره ربه في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } ( هود : 114 ) ومن هنا قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) .
ولئن كانت التقوى صلة
مع الله تبارك وتعالى ، وتقرّبا إليه ، فهي أيضا إحسان إلى الخلق ، وطيبة
في التعامل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وهكذا يظهر لنا التكامل والتناسق في
القيم الإيمانية ، فإن الأخلاق الحميدة رافد من روافد التقوى ، وشعبة من
شعب الإيمان .
وللأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة في شريعتنا ، فإنها تثقل
ميزان العبد يوم الحساب ، ويبلغ بها درجة الصائم القائم ، وهو سبب رئيس في
دخول الجنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس
الجنة ؟ ، قال : ( تقوى الله ، وحسن الخلق ) رواه أحمد .
وإذا عرفنا ذلك
، فإن هناك وسائل تعين العبد على التخلق بالأخلاق الحسنة ، أعلاها :
التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء ، لاسيما
وأنهم أعلى الناس خلقا ، وأوفرهم أدبا ، فإذا أراد المسلم التحلي بالصبر ،
قرأ قصة نبي الله يوسف عليه السلام ، وإذا أراد التخلّق بالحلم ، نظر إلى
حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه ، وهكذا ينهل من أخلاق الأنبياء ،
ويتعلّم منهم شمائل الخير كلها .
وبعد : فقد تبيّن لنا من خلال هذا
الحديث معاني التقوى وأحوالها ، كما تبيّن لنا أيضا أن الإسلام يقبل من
العاصي توبته ، ولا يطرده من رحمة الله ، وظهرت لنا معالم الخلق الحسن
وأهميته ، فجدير بنا أن نعمل بهذه الوصايا الثلاث ، نسأل الله تعالى أن
يجعلنا من عباده المتقين، آمين.
_______________________________
19_عن
أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : " كنت خلف النبي صلى
الله عليه وسلم يوما ، فقال : ( يا غلام ، إني أُعلمك كلمات : احفظ الله
يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا استعنت
فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) . رواه
الترمذي وقال :" حديث حسن صحيح ".
وفي رواية الإمام أحمد : (
احفظ الله تجده أَمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة ، واعلم
أَن ما أَخطأَك لم يكن ليصيبك ، وما أَصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أَن
النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسرِ يسرا ) .
الشرح
اصطفى
الله تعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم ، ليكتب لها التمكين في الأرض ،
وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بوجود تربية إيمانية جادة تؤهلها لمواجهة
الصعوبات التي قد تعتريها ، والأعاصير التي قد تحيق بها ، في سبيل نشر هذا
الدين ، وإقامة شرع الله في الأرض .
ومن هذا
المنطلق ، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس العقيدة في النفوس
المؤمنة ، وأولى اهتماما خاصا للشباب ، ولا عجب في ذلك! ، فهم اللبنات
القوية والسواعد الفتية التي يعوّل عليها نصرة هذا الدين ، وتحمّل أعباء
الدعوة .
وفي الحديث الذي نتناوله ، مثال حيّ على
هذه التنشئة الإسلامية الفريدة ، للأجيال المؤمنة في عهد النبوة ، بما
يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة ، وقواعد مهمة ، لا غنى للمسلم عنها .
وأولى
الوصايا التي احتواها هذا الحديث ، قوله صلى الله عليه وسلم : ( احفظ الله
يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ) ، إنها وصية جامعة ترشد المؤمن بأن يراعي
حقوق الله تعالى ، ويلتزم بأوامره ، ويقف عند حدود الشرع فلا يتعداه ،
ويمنع جوارحه من استخدامها في غير ما خلقت له ، فإذا قام بذلك كان الجزاء
من جنس العمل ، مصداقا لما أخبرنا الله تعالى في كتابه حيث قال : { وأوفوا
بعهدي أوف بعهدكم } ( البقرة : 40 ) ، وقال أيضا : { فاذكروني أذكركم } (
البقرة : 152 ) .
وهذا الحفظ الذي وعد الله به من اتقاه يقع على نوعين :
الأول
: حفظ الله سبحانه وتعالى لعبده في دنياه ، فيحفظه في بدنه وماله وأهله ،
ويوكّل له من الملائكة من يتولون حفظه ورعايته ، كما قال تعالى : { له
معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } ( الرعد : 11 ) أي :
بأمره ، وهو عين ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء : (
اللهم إني أسألك العفو والعاف
11_
عن
الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ، وريحانته رضي الله عنه قال : "
حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك )
رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الشرح
كان النبي
صلى الله عليه وسلم دائم النصح لأمته ، يوجههم إلى ما فيه خير لمعاشهم
ومعادهم ، فأمرهم بسلوك درب الصالحين ، ووضح لهم معالم هذا الطريق ،
والوسائل التي تقود إليه ، ومن جملة تلك النصائح النبوية ، الحديث الذي بين
أيدينا ، والذي يُرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اجتناب كل ما
فيه شبهة ، والتزام الحلال الواضح المتيقن منه .
والراوي لهذا
الحديث هو : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، سبط رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، والسبط : هو ولد البنت ، وقد توفي النبي صلى الله عليه
وسلم و للحسن سبع سنين ؛ ولذلك فإن الأحاديث التي رواها قليلة ، وهذا
الحديث منها .
وقد صدّر النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بقوله : (
دع ما يريبك ) فهذا أمر عام بترك كل ما يريب الإنسان ، والريبة هي الشك كما
في قوله سبحانه وتعالى : { الم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه } ( البقرة : 1-2 )
، وعليه فإن الحديث يدعو إلى ترك ما يقع فيه الشك إلى ما كان واضحاً لا
ريب ولا شك فيه .
وفي هذا الصدد بحث العلماء عن دلالة الأمر بترك ما
فيه ريبة ، هل هو للوجوب ؟ ، بحيث يأثم الإنسان إذا لم يجتنب تلك
المشتبهات ؟ ، أم إنه على الاستحباب ؟ .
إن المتأمل لهذا الحديث مع
الأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى ، يلاحظ أنها رسمت خطوطا واضحة
لبيان منهج التعامل مع ما يريب ، فالأمر هنا في الأصل للتوجيه والندب ؛ لأن
ترك الشبهات في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الأحكام ، يقود الإنسان
إلى الورع والتقوى ، واستبراء الدين والعرض كما سبق في حديث النعمان بن
بشير رضي الله عنهما ، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء ، فإذا تعلقت الريبة
في أمر محرم أو غلب الظن أن الوقوع في هذا العمل يؤدي إلى ما يغضب الله
ورسوله ، عندها يتوجب على العبد ترك ما ارتاب فيه .
ولسلفنا الصالح
رضوان الله عليهم الكثير من المواقف الرائعة ، والعبارات المشرقة ، التي
تدل على تحليهم بالورع ، وتمسكهم بالتقوى ، فمن أقوالهم : ما جاء عن
الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : " تمام التقوى ترك
بعض الحلال خوفا أن يكون حراما " ، ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله : "
يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما
يريبك إلى ما لا يريبك " ، وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى
العمري فقال : " عظني " ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : " زنة هذه من
الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض " .
ولقد ظهر أثر الورع
جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن
أبابكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله
عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له
الغلام : " تدري ما هذا؟ " فقال :" وما هو ؟ " قال الغلام : " كنت تكهنت
لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ،
فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه " ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي
الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .
ومما ورد في سير من
كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى
العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : " خذ ذهبك مني
؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب " ، وقال الذي له الأرض : "
إنما بعتك الأرض وما فيها " فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : "
ألكما ولد ؟ " قال أحدهما : " لي غلام " ، وقال الآخر : " لي جارية " ، قال
: " أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .
وقد رؤي سفيان الثوري في المنام ، وله جناحان يطير بهما في الجنة ، فقيل له : بم نلت هذا ؟ فقال : بالورع .
وللفقهاء
وقفة عند هذا الحديث ، فقد استنبطوا منه قاعدة فقهية مهمة تدخل في أبواب
كثيرة من الأحكام ، ونصّ القاعدة : " اليقين لا يزول بالشك " ، فنطرح الشك
ونأخذ باليقين ، وحتى نوضّح المقصود من هذه القاعدة نضرب لذلك مثلا ، فإذا
أحدث رجل ، ثم شك : هل تطهّر بعد الحدث أم لا ؟ فإن الأصل المتيقّن منه أنه
قد أحدث ، فيعمل به ، ويلزمه الوضوء إذا أرد أن يصلي ؛ عملا بالقاعدة
السابقة ، وهكذا إذا توضأ ثم شك : هل أحدث بعد الوضوء أم لا ؟ فالأصل أنه
متوضأ ؛ لأن وضوءه متيقنٌ منه ، وحدثُه مشكوك فيه ، فيعمل باليقين .
وللحديث
زيادة أخرى وردت في بعض طرق الحديث ، فقد جاء في الترمذي : ( فإن الصدق
طمأنينة ، والكذب ريبة ) ، وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم إذا ابتعد عن كل ما
يريبه ، فقد حمى نفسه من الوقوع في الحرام من باب أولى ، وهذا يورثه
طمأنينة في نفسه ، مبعثها بُعده عن طريق الهلاك ، أما إذا لم يمتثل للتوجيه
النبوي ، وأبى الابتعاد عن طريق الشبهات ، حصل له القلق والاضطراب ، لأن
من طبيعة المشكوك فيه ألا يسكن له قلب ، أو يرتاح له ضمير.
وخلاصة
القول : إن هذا الحديث يعطي تصورا واضحا للعبد فيما يأخذ وفيما يترك ، ومدى
أثر ذلك على راحة النفس وطمأنينة الروح ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من
أهل الورع والتقى ؛ إنه وليّ ذلك والقادر عليه .
_______
12_
عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من
حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه ) حديث حسن رواه الترمذي وغيره .
الشرح
أرشدنا
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، إلى الطريق الذي يبلغ به العبد
كمال دينه ، وحسن إسلامه ، وصلاح عمله ، فبيّن أن مما يزيد إسلام المرء
حسنا ، أن يدع ما لا يعنيه ولا يفيده في أمر دنياه وآخرته .
وفي قوله
صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء ، ترك ما لا يعنيه ) توجيه
للأمة بالاشتغال بما ينفعها ، ويقرّبها من ربّها ، كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( احرص على ما ينفعك ) فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام الأوقات
بالخيرات ، فإن الدنيا مزرعة للآخرة ، وعمر الدنيا قصير ، فهو كظل شجرة ،
يوشك أن يذهب سريعا ، لذا فالإنسان العاقل الذي جعل الآخرة همّه ، والجنة
مأربه ، يغتنم أوقاته كلها ، وقد أحسن الشاعر إذ قال :
اغتنم ركعتين في ظلمة الليــ ـل إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالخوض في البـا طـل فاجعل مكانه تسبيحا
إن
اهتمام المرء وانشغاله بما يعنيه فيه فوائد عظيمة ، فالنفس إن لم تشغلها
بالطاعة شغلتك بالمعصية ، فمن اشتغل بالناس نسي أمر نفسه ، وأوشك اشتغاله
بالناس أن يوقعه في أعراضهم بالقيل والقال ، كما أن انشغال المرء بنفسه
وبما يعينه فيه حفظ للوقت ، ومسارعة في الخير ، فضلا عما يورثه ذلك على
مستوى المجتمع من حفظ الثروات ، وتنمية المكتسبات ، وإشاعة روح الجدية
والعمل ، والإخاء والتعاون .
والتَرك المقصود في هذا الحديث يشمل
أمورا كثيرة ، منها ترك فضول النظر ، لما في التطلع إلى متاع الدنيا من
إفساد للقلب ، وإشغال للبال ، يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في
تفسير قوله تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة
الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } ( طه : 131 ) : " أي: لا تمد عينيك معجبا، ولا
تكرر النظر مستحسنا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب
اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك
كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابا بأبصار
المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب
سريعا، وتمضي جميعا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة " .
ومن
الأمور التي يشملها الترك في الحديث : ترك فضول الكلام ، ولغو الحديث ؛
لأنه يتعلق بجارحة خطيرة ، ألا وهي جارحة اللسان ، يشهد لما قلناه ما جاء
في الرواية الأخرى لهذا الحديث : ( إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما
لا يعنيه ) رواه أحمد
وقد امتدح الله عباده المؤمنين بقوله : { والذين
هم عن اللغو معرضون } ( المؤمنون : 3 ) ، فمن صان لسانه عن فضول القول ،
سَلِمَ من انزلاقه فيما لا يحبه الله ويرضاه ، وحمى منطقه من الغيبة
والنميمة ، ولذلك حث الشرع في مواطن كثيرة على لزوم الصمت إلا بما فيه ذكر
الله تعالى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، قال الله عزوجل : { لا
خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } (
النساء : 114 ) .
وينبغي أن يُعلم أن الضابط الصحيح لترك ما لا يعني
هو الشرع ، لا مجرد الهوى والرأي ، لذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم
أمارة على حسن إسلام المرء ، فإن البعض يدع أمورا قد دلّت عليها الشريعة ،
بدعوى أنها تدخّل في شؤون الآخرين ، فيعرض عن إسداء النصيحة للآخرين ،
ويترك ما أمره الله به من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بحجة احترام
الخصوصيات ، وكل هذا مجانبة للشرع ، وبعد عن هدى النبوة ؛ فإنه صلى الله
عليه وسلم كان تاركا لما لا يعنيه ، ومع ذلك كان ناصحا مرشدا ، آمرا
بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، عاملا بأمر الله في حلّه وترحاله .
وخلاصة
القول : إن في الحديث إرشاداً لما فيه حفظ وقت الإنسان من الضياع ، ودينه
من الصوارف التي تصرفه عن المسارعة في الخيرات ، والتزود من الصالحات ، مما
يعين العبد على تزكية النفس ، وتربيتها على معاني الجد في العمل ، نسأل
الله تعالى أن يعيننا على حسن استغلال الأوقات ، وأن يجنبنا فضول الملذات ،
إنه جواد كريم .
_________
13_
عن أنس بن مالك رضي الله عنه خادم
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب
لنفسه ) ، رواه البخاري و مسلم .
الشرح
حرص
الإسلام بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى ، حتى
ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة ، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما ينظم
علاقتهم بعضهم ببعض ؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم ، ولا
يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته
الشخصية ، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط ، متين الأساس .
ومن
أجل هذا الهدف ، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحقيق مبدأ
التكافل والإيثار ، فقال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ،
فبيّن أن من أهم عوامل رسوخ الإيمان في القلب ، أن يحب الإنسان للآخرين
حصول الخير الذي يحبه لنفسه ، من حلول النعم ، وزوال النقم ، وبذلك يكمل
الإيمان في القلب .
وإذا تأملنا الحديث ، لوجدنا
أن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس ، يتطلب منها سموا في التعامل ،
ورفعة في الأخلاق مع الغير ، انطلاقا من رغبتها في أن تُعامل بالمثل ، وهذا
يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس ، ويتغاضى عن هفواتهم ، ويعفو عمن
أساء إليه ، وليس ذلك فحسب ، بل إنه يشارك إخوانه في أفراحهم وأتراحهم ،
ويعود المريض منهم ، ويواسي المحتاج ، ويكفل اليتيم ، ويعيل الأرملة ، ولا
يألو جهدا في تقديم صنائع المعروف للآخرين ، ببشاشةِ وجه ، وسعة قلب ،
وسلامة صدر .
وكما يحب للناس السعادة في دنياهم ،
فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة ، لهذا فهو يسعى دائما إلى
هداية البشرية ، وإرشادهم إلى طريق الهدى ، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى
: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } (
فصلت : 33 ) .
ويتسع معنى الحديث ، ليشمل محبة
الخير لغير المسلمين ، فيحب لهم أن يمنّ الله عليهم بنعمة الإيمان ، وأن
ينقذهم الله من ظلمات الشرك والعصيان ، ويدل على هذا المعنى ما جاء في
رواية الترمذي لهذا الحديث ، قال صلى الله عليه وسلم : ( وأحب للناس ما تحب
لنفسك تكن مسلما ) .
ولنا في رسول الله صلى الله
عليه وسلم خير أسوة في حب الخير للغير ، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن
يدّخر جهدا في نصح الآخرين ، وإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة ،
روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه : (
يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرنّ على
اثنين ، ولا تولين مال يتيم ) .
أما سلفنا الصالح رحمهم الله ،
فحملوا على عواتقهم هذه الوصية النبويّة ، وكانوا أمناء في أدائها على خير
وجه ، فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يقول : " إني لأمر على الآية من كتاب
الله ، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم " ، ولما أراد محمد بن
واسع رحمه الله أن يبيع حمارا له ، قال له رجل : " أترضاه لي ؟ " ، فردّ
عليه : " لو لم أرضه لك ، لم أبعه " ، وهذه الأمثلة وغيرها مؤشر على السمو
الإيماني الذي وصلوا إليه ، والذي بدوره أثمر لنا هذه المواقف المشرفة.
ومن
مقتضيات هذا الحديث ، أن يبغض المسلم لأخيه ما يبغضه لنفسه ، وهذا يقوده
إلى ترك جملة من الصفات الذميمة ، كالحسد والحقد ، والبغض للآخرين ،
والأنانية و الجشع ، وغيرها من الصفات الذميمة ، التي يكره أن يعامله الناس
بها
وختاما : فإن من ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة
مجتمع فاضل ، ينعم أفراده فيه بأواصر المحبة ، وترتبط لبناته حتى تغدو
قوية متماسكة ، كالجسد الواحد القوي ، الذي لا تقهره الحوادث ، ولا تغلبه
النوائب ، ، فتتحقق للأمة سعادتها ، وهذا هو غاية ما نتمنى أن نراه على أرض
الواقع ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
__________________________
14_
عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايحل
دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث
: الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه
البخاري و مسلم .
الشرح
ابتعث
الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدين الخاتم ، الذي
يخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان ، إلى
عدل الإسلام ، فإذا دخل الإنسان حياض هذا الدين ، والتزم بأحكامه ، صار
فردا من أفراد المجتمع الإسلامي ، يتمتع بكافة الحقوق المكفولة له ، ومن
جملة هذه الحقوق ، عصمة دمه وماله وعرضه .
وإعطاء
المسلم هذه الحقوق له دلالته الخاصة ، فالحديث عن العصمة بكافة صورها هو
حديث عن حرمة المسلم ، ومكانته في هذا المجتمع ، وقد قرر النبي صلى الله
عليه وسلم هذه الحقوق يوم حجة الوداع فقال : ( إن دماءكم وأموالكم عليكم
حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) رواه مسلم ، وقال
أيضا : (من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي
له ذمة الله وذمة رسوله) رواه البخاري .
والشريعة
الإسلامية - بما تكفله من هذه الحقوق - تسعى إلى تحقيق الوحدة بين لبنات
المجتمع المسلم ، وتعميق الروابط بين المؤمنين ، وبهذا يتحقق لهذا المجتمع
أمنه ، وسلامة أفراده .
ولكن المشكلة تكمن في أولئك الأفراد
، الذين يشَّكل وجودهم خطرا يهدد صرح الأمة ، ولم تكن هذه الخطورة مقتصرة
على فسادهم الشخصي ، أو وقوعهم في بعض المحرمات وتقصيرهم في حقوق ربهم ،
إنما تعدت إلى انتهاك حقوق الآخرين ، وتهديد حياة الاستقرار التي يعيشها
هذا المجتمع ، فمن هنا رفع الإسلام عن هؤلاء المنعة الشرعية ، وأسقط حقهم
في الحياة .
وفي الحديث الذي بين أيدينا بيان لتلك
الأمور التي من شأنها أن تزيل العصمة عن فاعلها ، وتجعله مهدر الدم ، وهي
في قوله صلى الله عليه وسلم : ( الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك
لدينه المفارق للجماعة ) .
فأما الزاني
المحصن ، فإن الحكم الشرعي فيه هو الرجم حتى الموت ، ولعل في حديث عبادة بن
الصامت رضي الله عنه ، دلالة واضحة على هذا الحكم ، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( ..والثيب بالثيب جلد مائة ، والرجم ) رواه مسلم ، وقد رجم
النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا و الغامدية رضي الله عنهما في عهده ، وأجمع
المسلمون على هذا الحكم ، وكان فيما نزل من القرآن ، ثم نسخ لفظه وبقي
حكمه : " والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله ، والله
عزيز حكيم " - انظر مجموع الفتاوى 20/399 - .
وليس
ثمة شك في أن هذا الحكم الذي شرعه الله تعالى في حق الزاني المحصن ، هو
غاية العدل ، وهو الدواء الوحيد لقطع دابر هذه الظاهرة ، فإن الله سبحانه
وتعالى أعلم بعباده ، وهو الذي خلقهم ، فهو أدرى بما يصلحهم وينفهم ، لأنه
أحكم الحاكمين ، ولكنا إذا أردنا أن نتلمس الحكمة في تشريع الله تعالى لهذا
النوع من العقوبة ، بحيث اختصت في هذا الحد من الحدود ولم تشرع في غيره ،
فنقول : إذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نتأمل الآثار المدمرة التي يخلفها
مثل هذا الفعل الشنيع على جميع المستويات ، فهو ليس انتهاكا لحقوق الآخرين
واعتداء على أعراضهم فحسب ، بل هو جريمة في حق الإنسانية ، وإفساد للنسل
والذرية ، وسبب في اختلاط الأنساب ، فلهذا وغيره ، جاء حكم الله تعالى في
الزاني المحصن على هذا النحو .
ويجدر بنا أن نشير
إلى أن هذه العقوبة لا تتم إلا عندما يقرّ الزاني بما فعله من تلقاء نفسه ،
أو بشهادة أربعة شهود على حصول ذلك منه ، وهذا في الحقيقة قد يكون متعذراً
، ومن ناحية أخرى دعت الشريعة من زلت قدمه بهذه الخطيئة أن يستر على نفسه
ولا يفضحها ، ويتوب إلى الله عزوجل ، ولا داعي لفضح نفسه ، ولهذا كان النبي
صلى الله عليه وسلم يراجع من يعترف بفعله مرات ومرات ، لعله يتراجع عن
اعترافه هذا ، ونلمس ذلك جليا في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعلك قبلت أو
غمزت أو نظرت ) البخاري ، ومن هنا نرى أن الشريعة وضعت هذا الحد ضمن قيود
واضحة ، وضوابط محددة ؛ حتى لا يطبق إلا في نطاق لازم ، وفي الموضع الصحيح .
إن
ذلك يعطينا تصورا واضحة بأن هذه العقوبة ليست غاية أو هدفا في حد ذاتها ،
ولكنها وسيلة لاستئصال هذه الظاهرة والقضاء عليها ، وهذا ما أثبته التاريخ
في العهد النبوي ، فإن كتب السير لم تنقل لنا حصول هذه الجريمة الخلقية إلا
في عدد محدود للغاية .
ثم ذكر النبي صلى الله
عليه وسلم أمرا آخر يحل به دم المسلم وهو : ( النفس بالنفس ) أي : قتل
العمد ، وقد أجمع العلماء أن قاتل النفس المعصومة عمدا مستحق للقتل إذا
انطبقت عليه الشروط ، انطلاقا من قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس } ( المائدة :45 ) ، وهذا يشمل أن يكون المقتول أو القاتل
ذكرا أم أنثى ، وهذا العموم مفهوم من الآية السابقة ، يؤيد ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم صح عنه أمر بقتل يهودي قصاصا من امرأة .
وإذا
نظرنا إلى قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ( البقرة
:179) ، لأدركنا عظم الحكمة التي لأجلها شرع القصاص في الإسلام ، فالقصاص
بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا ، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة ، بل هو أمر
أعظم من ذلك ، إنه حياة للأمم والشعوب ، فإن القاتل إذا علم أن حياته ستكون
ثمنا لحياة الآخرين ، فسوف يشكّل ذلك أكبر رادع له عن فكرة القتل ، وبهذا
تستقيم الحياة ، وتعيش المجتمعات في أمن وطمأنينة .
وثالث
الأمور التي تهدر الدم وتسقط العصمة ، الردة عن دين الله تعالى ، لقوله
صلى الله عليه وسلم : ( والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أي : المفارق
لجماعة المسلمين ، ويعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
والردة
قد تكون بالقول الصريح : كأن يكفر بالله صراحة ، أو بالاعتقاد : كأن يجحد
شيئا معلوما من الدين بالضرورة ، أوإنكار النبوة أو البعث ، أو تكون
باستحلال ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، كما قد تكون بالفعل : كمن
رمى المصحف في مكان القاذورات - والعياذ بالله - أو سجد لصنم ، فهذه أمثلة
على بعض ما يخرج المرء من دين الله .
وينبغي
أن نشير هنا إلى أنه قد ورد في أحاديث أخرى القتل بغير هذه الثلاث ، فقد
ورد قتل اللوطي ، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به )
رواه الإمام أحمد في مسنده ، و أبوداود و الترمذي ، كما ورد الأمر بقتل
الساحر ، وقتل من أراد أن يشق عصا المسلمين ، ومن أراد الإفساد في الأرض
وقطع الطريق ، ولعلنا نلاحظ أن هذه الأصناف المذكورة تندرج ضمنا تحت
الأنواع الثلاثة التي تناولها الحديث .
إن هذه
التشريعات التي أحكمها الله سبحانه وتعالى هي صمام الأمان الذي يحفظ للأمة
أمنها واستقرارها ، وبها تصان حقوق الفرد والمجتمع ، فحري بنا أن نعقلها
ونتدبرها ، وأن نطبقها على واقعنا كما سطرناها في كتبنا
_____________________________
15_عن
أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر ، فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم
ضيفه ) رواه البخاري و مسلم .
الشرح
نشأ
العرب في جاهليتهم على بعض القيم الرفيعة ، والخصال الحميدة ، وسادت بينهم
حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من شخصيتهم ، يفتخرون بها على من سواهم ،
ويسطّرون مآثرها في أشعارهم .
وتلك
الأخلاق العظيمة التي امتازوا بها ، لم تأت من فراغٍ ، ولكنها نتاج طبيعي
من تأثّر أسلافهم بدعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام ، حتى اعتادوا عليها ،
وتمسّكوا بها عند معاملتهم للآخرين ، ثم ما لبث فجر الإسلام أن بزغ ،
فجاءت تعاليمه لترسي دعائم تلك الأخلاق ، وتعمق جذورها في نفوس المؤمنين ،
والتي كان منها : الحث على إكرام الضيف ، والحفاوة به .
إن
إكرام الضيف يمثل سمة بارزة للسمو الأخلاقي الذي تدعو إليه تعاليم الشريعة
، والتخلق بها يعدّ مظهرا من مظاهر تمام الإيمان وكماله ، ويكفينا دلالة
على ذلك ، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بين أيدينا : ( من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه )
وليس
المقصود من الحديث نفي مطلق الإيمان عمّن لم يأت بهذا الخلق - أو غيرها من
الخصال المذكورة - ، إنما أريد به المبالغة في الحث على المسارعة في
الامتثال لهذه الأوامر ، كما يقول القائل : " إن كنت ابني فأطعني " ،
ويعنون بذلك تشجيع الولد على طاعة أبيه ، فهو إذا : تشجيع على التمسك بتلك
الفضائل .
وقد وعى المؤمنون في الصدر الأول ذلك
جيدا ، وفهموا المراد منه ، فصار للضيافة شأن عظيم في حياتهم ، فلا عجب أن
تنقل لنا كتب السير في هذا المضمار من الأمثلة أروعها ، ومن المواقف أسماها
، يأتي في مقدمتها ما رواه الإمام مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتاه ضيف ، فلم يجد ما يضيفه به ، فقال لأصحابه : ( من يضيف هذا
الليلة رحمه الله ) فقام رجل من الأنصار فقال : " أنا يا رسول الله " ،
فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : " هل عندك شيء ؟ " قالت : " لا ، إلا
قوت صبياني " ، قال : " فعلّليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفيء السراج ،
وأريه أنّا نأكل ، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه " ، قال :
فقعدوا وأكل الضيف ، فلما أصبح ، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :
( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة ) ، إن هذا الموقف العظيم ، وهذا
التفاني في إسداء الكرم للضيف ، لثمرة من ثمار إيمانهم العميق بثواب الله
وأجره .
وبعد أن عرفنا مكانة الضيافة في
منظومة الأخلاق ، وقدرها عند الله ، فإنه يجدر بنا أن نقف وقفة سريعة مع
بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها في الضيافة ، فمن ذلك : أن يدعو الإنسان
لضيـافته الأتقياء والصالحين ، ويتجنب دعوة الفسقة من الناس ، عملا بقول
النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولا يأكل طعامك إلا تقي ) ، كذلك فإنه يدعو
لضيافته دون تمييز بين الفقير والغني ، فإن هذا من التواضع الذي ينبغي أن
يتحلّى به المؤمن ، وقد جاء في الحديث : ( شر الطعام طعام الوليمة ، يدعى
لها الأغنياء ويترك الفقراء ) متفق عليه ، فإذا حضر ضيوفه ، يستقبلهم عند
بابه ، ويبشّ عند قدومهم ، ويطيب في حديثه معهم ، وقد سئل الأوزاعي رحمه
الله : " ما إكرام الضيف ؟ " ، قال : " طلاقة الوجه ، وطيب الكلام " ، وقال
الشاعر :
وإني لطلق الوجه للمبتغي القــِرى وإن فنــائي للقــرى لرحيب
أضاحك ضيفي عند إنزال رحلـــه فيخـصب عنـدي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يُكثر القِرى ولكنـما وجه الكــريم خصيب
فإذا
حضر وقت الطعام ، فإنه يأتيهم بما تسير له ، ولا ينبغي له أن يتكلف ما
لايستطيع ؛ فإن هذا مخالف للهدي النبوي ، وفيه أذى وإحراج للضيف من ناحية
أخرى ، ومن إكرام الضيف : أن يخرج معه إلى باب الدار عند توديعه ؛ فإن ذلك
يشعره بمدى الحفاوة به ، والفرحة بحصول زيارته .
ولئن
كان الإسلام قد أولى العناية بحق الضيف على بعده وقلّة حضوره ، فإن
اهتمامه بالجار من باب أولى ، وحسبنا دلالة على ذلك : أن الله تعالى قرن
الأمر بالإحسان إليه مع الأمر بعبادته سبحانه ، قال تعالى : { واعبدوا الله
ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين
والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب } ( النساء : 36 ) ، وأكد
النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق في قوله : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار
حتى ظننت أنه سيورثه ) .
ومن هنا كان إيذاء الجار
من كبائر الذنوب عند الله عزوجل ، بل هو منافٍ لكمال الإيمان ، وقد روى
البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله لا يؤمن ،
والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ) ، قيل : "ومن يا رسول الله ؟ " ، قال : (
الذي لا يأمن جاره بوائقه ) ، أي لا يسلم من شره وأذاه .
ولاشك
أن الإحسان إلى الجار قربة عظيمة إلى الله تعالى ، ومن هنا جعل الإسلام له
حقوقا عديدة ، من جملتها : أن يمدّ جسور المحبة بينه وبين جيرانه ، وأن
يأتي كل ما من شأنه أن يوطّد هذه العلاقة ، ويزيدها قوة ، فيتعهّده دائما
بالزيارة والسؤال عن أحواله ، ويمدّ له يد العون في كل ما يحتاجه ، ويقف
معه في الشدائد والنوائب التي قد تصيبه ، ويشاركه في أفراحه التي تسعده .
ومن
حقوقه أيضا : أن يستر ما يظهر له من عيوبه ، ويحفظ عينه من النظر في
عوراته ، ويتواصل معه بالهدايا بين الحين والآخر ؛ فإن ذلك يزيد الألفة ،
ويقوي المحبة ، مهما كانت الهدية قليلة القدْر ، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( لا تحقرن جارة جارتها ، ولو فرسن شاة ) رواه البخاري و مسلم ،
والفرسن : هو عظم قليل اللحم .
إن الإحسان إلى
الجار ، والكرم مع الضيف ، يعدان من مظاهر التكافل الاجتماعي الذي يدعو
إليه الإسلام ، هذا وقد ذكر الحديث شعبة أخرى من شعب الإيمان ، وهي
المتمثلة في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ،
فليقل خيرا أو ليصمت ) ففيه دعوة إلى الكلمة الطيبة من ناحية ، ومن ناحية
أخرى تحذير من إطلاق اللسان فيما لا يرضي الله تبارك وتعالى .
وقد
تظافرت نصوص الكتاب والسنة على بيان خطر هذه الجارحة ، فكم من كلمة أودت
بصاحبها في نار جهنم ، وكم من كلمة كانت سببا لدخول الجنة ، وقد ثبت في
البخاري و مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد ليتكلم
بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) .
وهكذا
أيها القارئ الكريم ، يتبين لنا مما سبق بعضا من الجوانب المشرقة والأخلاق
الرفيعة ، التي يدعو إليها الإسلام ، ويحث على التمسك بها ، فما أجمل أن
نتخلق بها ، ونتخذها نبراسا ينير لنا الطريق .
_____________________________
16_عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " أوصني " ، فردّد ، قال : ( لا تغضب ) رواه البخاري .
الشرح
خلق
الله تعالى آدم عليه السلام من تراب الأرض بجميع أنواعه - الأبيض منها
والأسود ، والطيب والرديء ، والقاسي واللين - ، فنشأت نفوس ذرّيته متباينة
الطباع ، مختلفة المشارب ، فما يصلح لبعضها قد لا يناسب غيرها ، ومن هذا
المنطلق راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في وصاياه للناس ، إذ كان يوصي
كل فرد بما يناسبه ، وما يعينه في تهذيب نفسه وتزكيتها .
فها
هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتسابقون إليه كي يغنموا منه
الكلمة الجامعة ، والتوجيه الرشيد ، وكان منهم أبو الدرداء رضي الله عنه -
كما جاء في بعض الروايات - ، فأقبل بنفس متعطشة إلى المربي العظيم ، يسأله
وصية تجمع له أسباب الخير في الدنيا والآخرة ، فما زاد النبي صلى الله عليه
وسلم على أن قال له : ( لا تغضب ) .
وبهذه
الكلمة الموجزة ، يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطر هذا الخلق الذميم
، فالغضب جماع الشر ، ومصدر كل بليّة ، فكم مُزّقت به من صلات ، وقُطعت به
من أرحام ، وأُشعلت به نار العداوات ، وارتُكبت بسببه العديد من التصرفات
التي يندم عليها صاحبها ساعة لا ينفع الندم .
إنه
غليان في القلب ، وهيجان في المشاعر ، يسري في النفس ، فترى صاحبه محمر
الوجه ، تقدح عينيه الشرر ، فبعد أن كان هادئا متزنا ، إذا به يتحول إلى
كائن آخر يختلف كلية عن تلك الصورة الهادئة ، كالبركان الثائر الذي يقذف
حممه على كل أحد .
ولهذا كان النبي صلى
الله عليه وسلم يكثر من دعاء : ( اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب
والرضا ) رواه أحمد ، فإن الغضب إذا اعترى العبد ، فإنه قد يمنعه من قول
الحق أو قبوله ، وقد شدّد السلف الصالح رضوان الله عليهم في التحذير من هذا
الخلق المشين ، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : " أول الغضب
جنون ، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب " ، ويقول عروة بن الزبير رضي
الله عنهما : "مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب ؛ فإن شدة الغضب
مفسدة لفؤاد الحكيم " ، وأُثر عن أحد الحكماء أنه قال لابنه : "يا بني ، لا
يثبت العقل عند الغضب ، كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل
الناس غضباً أعقلهم "، وقال آخر : " ما تكلمت في غضبي قط ، بما أندم عليه
إذا رضيت ".
ومن الصفات التي امتدح الله بها عباده
المؤمنين في كتابه ، ما جاء في قوله تعالى : { الذين ينفقون في السراء
والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } ( آل
عمران : 134 ) ، فهذه الآية تشير إلى أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة مراتب :
فمنهم من يكظم غيظه ، ويوقفه عند حده ، ومنهم من يعفوا عمن أساء إليه ،
ومنهم من يرتقي به سمو خلقه إلى أن يقابل إساءة الغير بالإحسان إليه .
وهذا
يقودنا إلى سؤال مهم : ما هي الوسائل التي تحد من الغضب ، وتعين العبد على
التحكم بنفسه في تلك الحال ؟ : لقد بينت الشريعة العلاج النافع لذلك من
خلال عدة نصوص ، وهو يتلخص فيما يأتي :
أولا : اللجوء
إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء ، فالنفوس بيد الله تعالى ، وهو المعين
على تزكيتها ، يقول الله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ( غافر :
60 ) .
ثانيا : التعوذ بالله من الشيطان
الرجيم ، فهو الذي يوقد جمرة الغضب في القلب ، يقول الله تعالى : { وإما
ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } ( فصلت : 36 ) ، وقد مرّ النبي صلى
الله عليه وسلم على رجلين يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة ، لو قالها ذهب عنه ما
يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان ، ذهب عنه ما يجد ) ، وعلى الغاضب أن
يكثر من ذكر الله تعالى والاستغفار ؛ فإن ذلك يعينه على طمأنينة القلب
وذهاب فورة الغضب .
ثالثا : التطلع إلى ما
عند الله تعالى من الأجور العظيمة التي أعدها لمن كظم غيظه ، فمن ذلك ما
رواه أبو داود بسند حسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كظم غيظا
وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق ، حتى
يخيره من أي الحور شاء ) .
رابعا : الإمساك عن الكلام ،
ويغير من هيئته التي عليها ، بأن يقعد إذا كان واقفا ، ويضطجع إذا كان
جالسا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس
، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) رواه أبو داود .
خامسا : الابتعاد عن كل ما ما يسبب الغضب ، والتفكر فيما يؤدي إليه.
سادسا : تدريب النفس على الهدوء والسكينة في معالجة القضايا والمشاكل ، في شتى شؤون الدنيا والدين .
______________________________
17_عن
أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
الشرح
إن
المتطلع إلى مبادئ ديننا الحنيف ، ليبهره جوانب التكامل في تشريعاته ، مما
يجعله موقنا بتفرد الإسلام في شموليته ، فهو يدعو الإنسان إلى أن يحسن
صلته بخالقه ، وفي الوقت ذاته يضع الأسس المتينة ، والقواعد الراسخة في
تعامله مع غيره من الخلق .
ومن هنا
تظافرت نصوص الكتاب والسنة مؤيدة لهذه الرؤية ، وموضحة لمعالمها ، وجعلت
الإحسان هو الأساس الذي تنبثق منه هذه العلاقات ، وقد نبهنا الله سبحانه
وتعالى إلى ذلك في كتابه العزيز فقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } (
النحل : 90 ) ، فبيّن وجوب العمل بمقتضى الإحسان ، وأحاط العاملين بها
بمعيّته الخاصة ، وشملهم برعايته وتأييده ، كما قال عزوجل : { وإن الله لمع
المحسنين } ( العنكبوت : 69 ) ، كذلك فإنه قد بيّن السبل لتحقيق ذلك في
الكثير من المواضع ، ومن جملتها ، الحديث الذي بين أيدينا ، والذي جاء
موضحا كيفية الإحسان إلى الخلق .
فبعد أن قرّر
النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإحسان في كل ميدان ، وعلى كل شيء ، وأكّد
على ذلك بقوله : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) ، عرّج بعدها بذكر
مثالين اثنين ، يلزم الإنسان المسلم فيهما مراعاة الإحسان ، والمحافظة عليه
.
ففي قوله : ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) ،
توجيه نبوي إلى الإحسان في هيئة القتل ، ويكون ذلك بالإسراع في إزهاق النفس
التي أبيح دمها حال القصاص أو حال الحرب ، ولئن جاز للمسلمين معاملة من
حاربهم بالمثل ، فإن ذلك لا يبيح لهم التمثيل بالقتلى ، والتشويه للجثث
بدون سبب شرعي ، لما في ذلك من منافاة للمثل العليا التي يدعو إليها ديننا
الحنيف .
ويدخل ضمن الأمر بإحسان القتل ، تحريم
التعذيب بالنار ، وليس ذلك للبشر فحسب ، بل حتى للحيوانات والحشرات ، فقد
روى الإمام البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا
تعذبوا بعذاب الله ) ؛ وهذا يؤكد حرص الإسلام على اختيار أيسر الطرق
المؤدية إلى خروج الروح عند تحتّم القتل .
ثم
انتقل الحديث بعد ذلك إلى قضية الإحسان في الذبح ، بآدابه الراقية التي
تجسد معاني الرفق بالحيوان ، وقد ذكر العلماء هذه الآداب في كتب الفقه ،
وأسهبوا في شرحها ، فمن ذلك : أن يذبح البهيمة بآلة حادة ، تعجّل من خروج
روحها ، وإنهار دمها ، فلا تتعذب كثيرا ، يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد و
ابن ماجة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بحد الشفار " ، وقد جعل العلماء ذلك شرطا في آلة الذبح ، كما جاء في
الحديث : ( ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكلوه ، ليس السن والظفر )
رواه الشيخان .
ومن الإحسان في الذبح ، ألا يقوم
الذابح بحد شفرته أمام الذبيحة ، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
رجل واضع رجله على صفحة شاة ، وهو يحد شفرته ، وهي تلحظ إليه ببصرها فقال :
( أتريد أن تميتها موتات ؟، هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم
، وكذلك فإنه يستحب له أن لا يذبح ذبيحة بحضرة أخرى ، ولا يظهر السكين
أمام الذبيحة إلا عند مباشرته للذبح .
ومن الرفق
بالذبيحة ، أن تساق إلى المذبح سوقا هينا ، فلا يجرّها بأذنها ، أو يسوقها
سوقا عنيفا ، كما ذكر ذلك الإمام أحمد ، فإذا أراد أن يذبحها ، فعليه أن
يضجعها على شقها الأيسر برفق ، لما ثبت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن
عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن ،
فأتى به ليضحي به ، فقال لها : ( يا "عائشة" ، هلمي المدية) ، ثم قال : (
اشحذيها بحجر ) ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ، ثم ذبحه " ، وقد
صرّح الإمام النووي بوقوع الإجماع على هذه المسألة ، واستحب الشافعية أيضا
عرض الماء على الذبيحة قبل ذبحها .
وبعد أن يسمّي ،
يسرع في قطع الأوداج ، وإنهار الدم ، حتى يريح الذبيحة ، ولا يباشر بقطع
شيء منها ، أو سلخها ، حتى تتم الذكاة وتخرج الروح ، ولا ينبغي له أن يبالغ
في الذبح حتى يقطع الرأس ، فإن ذلك مناف للإحسان إليها .
إن
كل ما سبق ، يزيد المرء إيمانا بكمال هذا الدين ، وتناوله لجميع نواحي
الحياة ، وبهذا المنهج الرباني الذي يتألق سموا بتلك المعاني السامية ،
يمكن للبشرية أن تخرج من ظلمات التيه ، لتقتبس من نور الإسلام ، وترتبط
بخالقها جلّ وعلا برباط محكم وثيق ، فتعيش آمنة مطمئنة ، وهذا ما نتطلع إلى
حصوله بإذن الله العلي القدير .
______________________________
18_
عن أبي ذر جندب بن جنادة ، و أبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة
الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن .
الشرح
التقوى
هي سفينة النجاة ، ومفتاح كل خير ، كيف لا ؟ وهي الغاية العظمى ، والمقصد
الأسمى من العبادة ؟ ، إنها محاسبة دائمة للنفس ، وخشية مستمرة لله ، وحذر
من أمواج الشهوات والشبهات التي تعيق من أراد السير إلى ربه ، إنها الخوف
من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل
.
من هنا كانت التقوى هي وصية الله
للأولين والآخرين من خلقه ، قال تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } ( النساء : 131 ) ، وهي وصية النبي صلى
الله عليه وسلم لجميع أمته ، ووصية السلف بعضهم لبعضهم ، فلا عجب إذا أن
يبتدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحته ل معاذ بن جبل و أبي ذر رضي
الله عنهما .
والتقوى ليست كلمة تقال ، أو شعاراً
يرفع ، بل هي منهج حياة ، يترفّع فيه المؤمن عن لذائذ الدنيا الفانية ،
ويجتهد فيه بالمسابقة في ميادين الطاعة ، ويبتعد عن المعاصي والموبقات ،
وقد جسد أبي بن كعب رضي الله عنه هذا المعنى لما سئل عن التقوى ؟ فقال : "
هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك
عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى " وقد أخذ ابن المعتز
رحمه الله هذا المعنى ، وصاغه بأبيات بديعة من الشعر فقال :
خل الذنوب صغيـــرها وكبيــرها ذاك التقـى
واصنع كمـــاش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن صغيــرة إن الجبـال من الحصى
ومن
تمام التقوى ، أن يترك العبد ما لا بأس به ، خشية أن يقع في الحرام ،
ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فمن اتقى الشبهات ، فقد
استبرأ لدينه وعرضه ) رواه مسلم ، وفي هذا المعنى يقول أبو الدرداء رضي
الله عنه : "تمام التقوى ، أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ،
وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، فيكون حجابا بينه
وبين الحرام ، فإن الله قد بيّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : { فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 - 8 ) "
، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ، ولا شيئا من الشر أن تتقيه .
وفي
قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ) تنبيه للمؤمن على
ملازمة التقوى في كل أحواله ، انطلاقاً من استشعاره لمراقبة الله له في كل
حركاته وسكناته ، وسره وجهره ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله
حيثما كنت ) إشارة إلى حقيقة التقوى ، وأنها خشية الله في السرّ والعلن ،
وحيث كان الإنسان أو صار ، فمن خشي الله أمام الناس فحسب فليس بتقي ، وقد
قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ،
ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود } ( ق : 33 - 34 ) .
وقد يظن ظان أن
المتقي معصوم من الزلل ، وهذا خطأ في التصور ؛ فإن المتقي قد تعتريه الغفلة
، فتقع منه المعصية ، أو يحصل منه التفريط في الطاعة ، وهذه هي طبيعة
البشر المجبولة على الضعف ، ولكن المتقي يختلف عن غيره بأنه إذا تعثّرت به
قدمه ، بادر بالتوبة إلى ربه ، والاستغفار من ذنبه ، ولم يكتف بذلك ، بل
يتبع التوبة بارتياد ميادين الطاعة ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، كما
أمره ربه في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات
يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } ( هود : 114 ) ومن هنا قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) .
ولئن كانت التقوى صلة
مع الله تبارك وتعالى ، وتقرّبا إليه ، فهي أيضا إحسان إلى الخلق ، وطيبة
في التعامل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وهكذا يظهر لنا التكامل والتناسق في
القيم الإيمانية ، فإن الأخلاق الحميدة رافد من روافد التقوى ، وشعبة من
شعب الإيمان .
وللأخلاق الفاضلة مكانة عظيمة في شريعتنا ، فإنها تثقل
ميزان العبد يوم الحساب ، ويبلغ بها درجة الصائم القائم ، وهو سبب رئيس في
دخول الجنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس
الجنة ؟ ، قال : ( تقوى الله ، وحسن الخلق ) رواه أحمد .
وإذا عرفنا ذلك
، فإن هناك وسائل تعين العبد على التخلق بالأخلاق الحسنة ، أعلاها :
التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء ، لاسيما
وأنهم أعلى الناس خلقا ، وأوفرهم أدبا ، فإذا أراد المسلم التحلي بالصبر ،
قرأ قصة نبي الله يوسف عليه السلام ، وإذا أراد التخلّق بالحلم ، نظر إلى
حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه ، وهكذا ينهل من أخلاق الأنبياء ،
ويتعلّم منهم شمائل الخير كلها .
وبعد : فقد تبيّن لنا من خلال هذا
الحديث معاني التقوى وأحوالها ، كما تبيّن لنا أيضا أن الإسلام يقبل من
العاصي توبته ، ولا يطرده من رحمة الله ، وظهرت لنا معالم الخلق الحسن
وأهميته ، فجدير بنا أن نعمل بهذه الوصايا الثلاث ، نسأل الله تعالى أن
يجعلنا من عباده المتقين، آمين.
_______________________________
19_عن
أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : " كنت خلف النبي صلى
الله عليه وسلم يوما ، فقال : ( يا غلام ، إني أُعلمك كلمات : احفظ الله
يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا استعنت
فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) . رواه
الترمذي وقال :" حديث حسن صحيح ".
وفي رواية الإمام أحمد : (
احفظ الله تجده أَمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك فـي الشدة ، واعلم
أَن ما أَخطأَك لم يكن ليصيبك ، وما أَصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أَن
النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسرِ يسرا ) .
الشرح
اصطفى
الله تعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم ، ليكتب لها التمكين في الأرض ،
وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بوجود تربية إيمانية جادة تؤهلها لمواجهة
الصعوبات التي قد تعتريها ، والأعاصير التي قد تحيق بها ، في سبيل نشر هذا
الدين ، وإقامة شرع الله في الأرض .
ومن هذا
المنطلق ، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس العقيدة في النفوس
المؤمنة ، وأولى اهتماما خاصا للشباب ، ولا عجب في ذلك! ، فهم اللبنات
القوية والسواعد الفتية التي يعوّل عليها نصرة هذا الدين ، وتحمّل أعباء
الدعوة .
وفي الحديث الذي نتناوله ، مثال حيّ على
هذه التنشئة الإسلامية الفريدة ، للأجيال المؤمنة في عهد النبوة ، بما
يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة ، وقواعد مهمة ، لا غنى للمسلم عنها .
وأولى
الوصايا التي احتواها هذا الحديث ، قوله صلى الله عليه وسلم : ( احفظ الله
يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ) ، إنها وصية جامعة ترشد المؤمن بأن يراعي
حقوق الله تعالى ، ويلتزم بأوامره ، ويقف عند حدود الشرع فلا يتعداه ،
ويمنع جوارحه من استخدامها في غير ما خلقت له ، فإذا قام بذلك كان الجزاء
من جنس العمل ، مصداقا لما أخبرنا الله تعالى في كتابه حيث قال : { وأوفوا
بعهدي أوف بعهدكم } ( البقرة : 40 ) ، وقال أيضا : { فاذكروني أذكركم } (
البقرة : 152 ) .
وهذا الحفظ الذي وعد الله به من اتقاه يقع على نوعين :
الأول
: حفظ الله سبحانه وتعالى لعبده في دنياه ، فيحفظه في بدنه وماله وأهله ،
ويوكّل له من الملائكة من يتولون حفظه ورعايته ، كما قال تعالى : { له
معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } ( الرعد : 11 ) أي :
بأمره ، وهو عين ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم كل صباح ومساء : (
اللهم إني أسألك العفو والعاف