السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
بسم الله الرحمان الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :
فقد تظافرت النصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا وذمها ، والترغيب في الآخرة والاستعداد لها ، فكم من كريم في الدنيا ذليل في الآخرة ، وكم من فقير مدفوع بالأبواب وهو عند الله عز وجل عزيز . قال عليه الصلاة والسلام : { إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن ثم الله جناح بعوضة وقال اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } . رواه البخاري
ولست أريد في هذه الكلمات أن أجمع النصوص التي تتعلق بالموضوع وإنما هي كلمات وآيات ، وأحاديث وعبر ، ترقق القلب وتزيد الإيمان ، وفيها الذكرى بإذن الله تعالى .
وتأمل أخي مَثَلَ هذه الحياة الدنيا وعاقبة المؤمن والكافر يوم القيامة في قوله تعالى :
(( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )) [ الحديد : 20].
وإنما يفلح في الآخرة من جعل من دنياه زاداً من التقوى والعمل الصالح . قال تعالى :
(( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)) [ الكهف : 46 ] .
واسمع أخي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما ، قال ابن عمر : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال : { كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } فكان ابن عمر يقول : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك . رواه البخاري
وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام وهو يحذر المؤمنين من التعلق بالدنيا وزينتها وخاصة النساء فيقول : {إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } رواه مسلم .
وفي الوقت الذي يُزَهّد النبي صلى الله عليه وسلم فيه من الدنيا ، يرفع من العمل الصالح والعلم النافع فيقول : { ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً " . رواه الترمذي وحسنه .
فهنيئاً لمن رفعه الله عز وجل في الدنيا والآخرة بالعلم النافع . قال تعالى : (( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )) .
واعلم أخي المسلم أن الزهد في الدنيا سبب لمحبة الله عز وجل ومحبة الناس . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس . قال : { ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس } صححه الألباني ، الصحيحة 944
وشتان بين الزاهد في الدنيا واللاهث وراءها ، فالأول تأتيه الدنيا من حيث لا يحتسب ، والثاني ليس له فيها نصيب . قال عليه الصلاة والسلام : { من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له } . حسنه الألباني .
وقف أخي عند هذه الأمثلة الرائعة من حياة السابقين فإن في حياتهم عبرة وعظة ، قال تعالى : ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب )) [ يوسف : 111 ] .
جاء في السلسلة الأحاديث الصحيحة – على مصححها رحمة الله تعالى ومفغرته ورضوانه – قوله عليه الصلاة والسلام : { إن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة فقالت : ( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) فكُشف لها عن بيتها في الجنة ]
فسبحان الذي جعل الدنيا في قلوب أناس لا يملكونها ، وجعل الآخرة في أيدي أناس حيزت لهم الدنيا بحذافيرها ، فهذه امرأة فرعون وسيدة مصر التي تنوء بحمل أموالها العصبة أولو القوة تلقي خلف ظهرها كنوز مصر ونعيمها ، وتتخلى عن كل ذلك لعلمها إن هذه الدنيا زائلة وأن الآخرة هي دار القرار .
وأَعجَبُ من ذلك - أخي المسلم - ما رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة قوله عليه الصلاة والسلام : { بينما رجل فيمن كان قبلكم كان في مملكته ، فتفكر فعلم أن ذلك منقطع عنه ، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه ، فتسرب فانساب ذات ليلة من قصره ، فأصبح في مملكة غيره ، وأتى ساحل البحر ، فكان به يضرب اللبن بالأجر فيأكل ويتصدق بالفضل ، فلم يزل كذلك حتى رقى أمره إلى ملكهم وعبادته وفضله ، فأرسل ملكهم أن يأتيه فأبى أن يأتيه فأعاد بالله فأبى أن يأتيه وقال : ما له ولي . قال : فركب الملك فلما رآه الرجل ولى هاربا ، فلما رأى ذلك الملك ركض في أثره فلم يدركه ، فناداه : يا عبد الله إنه ليس عليك مني بأس ، فأقام حتى أدركه فقال له : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا فلان بن فلان صاحب ملك كذا وكذا ، فتفكرت في أمري فعلمت أن ما أنا فيه منقطع فإنه قد شغلني عن عبادة ربي فتركته وجئت ها هنا أعبد ربي ، فقال : ما أنت بأحوج إلى ما صنعت مني . قال : ثم نزل عن دابته فسيبها ثم تبعه فكانا جميعا يعبدان الله عز وجل ، فدعوا الله أن يميتهما جميعاً ، قال : فماتا . قال ( راوي الحديث ) : لو كنت برُمَيْلةِ مصر لأريتكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله } .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في زهده وتواضعه ورغبته عن الدنيا وزينتها ، روى البخاري في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها قالت : " ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قام رسول الله على حصير فقام وقد أثر في جنبه ، قلنا يا رسول الله : لو اتخذنا لك وِطاءً ، فقال : { ما لي وللدنيا ؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها } رواه الترمذي ، وصححه الألباني (الصحيحة 438).
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير " .
رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر } رواه مسلم
قال ابن القيم رحمه الله
كيف تحقيق الزهد في الدنيا
أحدها : علم العبد بأن الدنيا ظـل زائل وخيال زائر
الثاني : علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل
الثالث : معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها
وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها
فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد في الدنيا وتثبت
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
احذروا الدنيا إذا أمات الناس الصلاة و أضاعوا الأمانات و اتبعوا الشهوات و استحلوا الكذب و أكلوا الربا و أخذوا الرشى و شيدوا البناء و اتبعوا الهوى و باعوا الدين بالدنيا و استخفوا بالدماء و ركنوا إلى الرياء و تقاطعت الأرحام
و كان الحلم ضعفا و الظلم فخرا و الأمراء فجرة و الوزراء كذبة و الأمناء خونة و الأعوان ظلمة و القراء فسقة و ظهر الجور و كثر الطلاق و موت الفجأة و حليت المصاحف
و زخرفت المساجد و طولت المنابر و نقضت العهود و خربت القلوب و استحلوا المعازف و شربت الخمور و ركبت الذكور و اشتغل النساء و شاركن أزواجهن في التجارة حرصا على الدنيا و علت الفروج السروج و يشبهن بالرجال
فحينئذ عدوا أنفسكم في الموتى
و لا تغرنكم الحياة الدنيا فإن الناس اثنان بر تقي و آخر شقي و الدار داران لا ثالث لهما و الكتاب واحد لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ألا و إن حب الدنيا رأس كل خطيئة و باب كل بلية و مجمع كل فتنة و داعية كل ريبة الويل لمن جمع الدنيا و أورثها من لا يحمده و قدم على من لا يعذره الدنيا دار المنافقين و ليست بدار المتقين فلتكن حظك من الدنيا قوام صلبك و إمساك نفسك و تزود لمعادك
أسأل الله العلي العظيم أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا إنه سميع قريب مجيب الدعاء ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .