في المدينة المنورة كان مولد جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي في (( 8 رمضان 83 هـ )) وفي وسط هذه الأجواء المعبقة بأريج النبوة نشأ جعفر الصادق نشأة كريمة في بيت علم ودين ، وأخذ العلم عن أبيه محمد الباقر ، وجده لأمه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المتوفَّى سنة (( 108هـ )) أحد فقهاء المدينة المشهود لهم بسعة العلم والفقه .

كان الصادق من الأئمة المجتهدين الذين يستخرجون الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة ، غير تابعين لأحد في اجتهادهم ، وكان صاحب منهج أصولي لاستنباط الأحكام ، ومن مبادئه في التشريع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد فيها نهي وكان لا يأخذ بالقياس لأنه رأي ، وإنما يرجع إلى ما ورد في الأصل من الكتاب والسنة .

ولعلمه فقد تتلمذ على جعفر الصادق كثير من الأئمة الكبار ، في مقدمتهم أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة (( 150هـ )) ومالك بن أنس المتوفى (( 179هـ )) وابنه موسى الكاظم المتوفى (( 183هـ )) وحدّث عنه كثيرون من أئمة الحديث ، مثل : يحيى بن سعيد الأنصاري وابن إسحاق وسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ويحيى القطان وآخرين .



ولجعفر الصادق حكم وأدعية أشبه بكلام النبوة خرجت من نفس كريمة وقلب مؤمن عظيم الإيمان ، ورد كثير منها في كتب الشيعة ، وروى بعضها الشهرستاني في الملل والنحل ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ، من ذلك وصيته لابنه موسى ، يقول فيها :

"يا بُنيُّ ، مَن قنع بما قسم له استغنى ، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيراً ، ومَن لم يرض بما قسم له اتهم الله في قضائه ، ومَن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه ، ومَن كشف حجاب غيره انكشفت عورته ، ومَن سل سيف البغي قتل به ، ومَن احتفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيها . يا بني ، كن للقرآن تالياً ، وللسلام فاشياً ، وللمعروف آمراً ، وعن المنكر ناهياً ، ولمَن قطعك واصلاً ، ولمَن سكت عنك مبتدئاًَ ..." .

كان الإمام جعفر من أعظم الشخصيات ذوي الأثر في عصره وبعد عصره ، وجمع إلى سعة العلم صفات كريمة اشتهر بها الأئمة من أهل البيت كالحلم والسماحة والجلد والصبر ، فجمع إلى العلم العمل وإلى عراقة الأصل كريم السجايا ، وظل مقيماً في المدينة ملجأ للناس وملاذاً للفتيا ومرجعاً لطلاب العلم حتى توفِّي في شوال من سنة (( 148هـ )) ، ودُفن في البقيع مع أبيه وجده .