السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ



إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...



رمضان شهر الذكر



فإن رمضانَ موسمُ الخيرات، وميدان التنافس في القربات.

وإن ذكر الله _عز وجل_ لمن أعظم ما يُتقرب به، وأجلِّ ما يسابق ويتنافس عليه؛ إذ هو المقصود الأعظم في مشروعية العبادات؛ فما شرعت الصلاة إلا لإقامة ذكر الله ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ (طـه: من الآية14).



ولا شُرِعَ الطوافُ بالبيت العتيق، ولا رميُ الجمار، ولا السعي بين الصفا والمروة، إلا لإقامة ذكر الله _عز وجل_ وهكذا بقية الأعمال الصالحة.



ونصوص الشرع متضافرةٌ متظاهرةٌ على فضل الذكر، وعموم نفعه، والثناء على أهله، والحث على الإكثار منه.



قال_تبارك وتعالى_: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الأحزاب:41 -42) .



وقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: من الآية191).



وقال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: من الآية10).



وقال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: من الآية35).



قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

(مما هو كالإجماع بين العلماء بالله، وأمره أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل به العبدُ نفْسَه في الجملة.

وعلى ذلك دلَّ حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم (سبق المفَرِّدون).

قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟

قال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).



وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟)

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (ذِكرُ الله).



والدلائل القرآنية، والإيمانية بصراً، وخبراً، ونظراً على ذلك كثيرة.



وأقل ذلك أن يلزم الإنسانُ الأذكارَ المأثورةَ عن معلم الخير، وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم، كالأذكار المؤقتة في أول النهار، وآخره، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ في المنام، وأدبار الصلوات، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر، والرعد وغير ذلك.



وقد صنفت له الكتب المسمَّاة بعمل اليوم والليلة.

ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله: (لا إله إلا الله).



وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله أفضل منه) انتهى كلامه رحمه الله.





معاشر الصائمين:

فوائد الذكر لا تكاد تحصى لكثرتها، وتنوع بركتها، وإليكم نبذةً عن تلكم الفوائد على سبيل الإجمال.

الذكر يرضي الرحمنَ، ويطرد الشيطانَ، ويزيل الهمَّ والغم، ويجلب البسطَ والسرور.



والذكر يجلب الرزق، ويحيي القلب، ويورث محبةَ الله للعبد، ومحبة العبد لله، ومراقَبَتهُ _عز وجل_ ومعرفتَه، والرجوعَ إليه، والقربَ منه.



والذكر يَحُطُّ السيئاتِ، وينفع صاحبَه عند الشدائد، ويزيل الوحشةَ ما بين العبد وربه.



ومن فوائد الذكر أنه يؤمِّن من الحسرة يوم القيامة، وأن فيه شُغْلاً عن الغيبة، والنميمة، والفحش من القول، وأنَّه مع البكاء من خشية الله سببٌ لإظلال الله للعبد يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.





معاشر الصائمين:

الذكر أمانٌ من النفاق، أمانٌ من نسيان الله.

ومن فوائده أنه غراس الجنة، وأنه أيسر العبادات، وأقلُّها مشقَّة، ومع ذلك فهو يعدل عتق الرقاب، ويُرَتَّبُ عليه من الجزاء ما لا يرتب على غيره.



والذكر يغني القلب، ويسدُّ حاجته، ويجمعُ على القلب ما تفرق من إراداته وعزومه، ويفرق عليه ما اجتمع من الهموم والغموم والأحزان، والأنكاد، والحسرات.

ويفرق عليه _أيضاً_ ما اجتمع على حربه من شياطين الإنس والجن.



والذكر يقرِّب من الآخرة، ويباعد من الدنيا، ويعطي الذاكرَ قوةً، حتى إنه لَيفعلُ مع الذكر ما لا يُظن فعلُه بدون الذكر.



ومن فوائده أنه رأس الشكر؛ فما شكر الله من لم يذكره، وأن أكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.



وبالذِّكر تَسْهُل الصعاب، وتَخِفُ المشاق، وتُيَسَّر الأمور، وتذوب قسوة القلب، وتُسْتَجْلَب بركة الوقت.



والذكر يوجب صلاةَ الله، وملائكتِه، ومباهاةَ الله _عز وجل_ بالذاكرين ملائكتَه.



وللذكر تأثير عجيب في حصول الأمن، ودفع الخوف، ورفعه؛ فليس للخائف الذي اشتدّ خوفه أنفعُ من الذكر.



ثم إن الجبال والقفار تباهي وتبشر بمن يذكر الله عليها.



ودوام الذكر في الطريق، والبيت، والحضر والسفر، والبقاع_تكثير لشهود العبد يوم القيامة.

وللذكر من بين الأعمال لذَّة لا تُعَادِلُها لذَّة.



وبالجملة فإن ثمرات الذكر وفوائده، تحصل بكثرته، وباستحضار ما يقال فيه، وبالمداومة على الأذكار المطلقة، والمقيدة، وبالحذر من الابتداع فيه، ومخالفة المشروع.





معاشر الصائمين:

هناك أذكارٌ مطلقةٌ عظيمةٌ، وقد جاء في فضلها نصوصٌ كثيرة.

وأعظم هذه الأذكار: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر).



وقد جاء في فضلها أحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر_أحب إلي مما طلعت عليه الشمس).



ومن الأذكار العظيمة (لا حول ولا قوة إلا بالله).

ومعناها: لا تحوُّل للعبد من حال إلى حال، ولا قوّة له على ذلك إلا بالله.



وقد جاء في فضلها أحاديثُ كثيرةٌ، منها ما جاء في سنن الترمذي عن عبد الله بن عمرو _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض أحدٌ يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كُفِّرتْ خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر).

قال الترمذي: (وهذا حديث حسن غريب).



وجاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا موسى، أو يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنَّة).

قلت: بلى.

قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله).



قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لا حول ولا قوة إلا بالله تُحمل بها الأثقال، وتُكابد الأهوال، ويُنال رفيعُ الأحوال).



وقال ابن القيم رحمه الله: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثراً في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا! كيف نحمل عرشَك وعليه عظمتُك وجلالك؟

فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلما قالوها حملوه).



وقال ابن القيم_أيضاً_: (وهذه الكلمة _يعني لا حول ولا قوة إلا بالله_ لها تأثيرٌ عجيبٌ في معاناة الأشغال الصعبة، وتَحَّملِ المشاقِّ، والدخولِ على الملوك، ومَنْ يُخاف، وركوب الأهوال، ولها _أيضاً_ تأثيرٌ في دفع الفقر).

قال: (وكان حبيبُ بنُ مسلمةَ يَستَحب إذا لقيَ عدواً، أو ناهض حصناً، أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ناهض يوماً حصناً للروم فانهزم، فقالها المسلمون، وكبروا، فانهدم الحصن).





معاشر الصائمين:

ومن الأذكار المطلقة العظيمة (سبحان الله وبحمده).

ولقد جاء في فضلها أحاديثُ كثيرةٌ، منها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).



ومن الأذكار العظيمة _كذلك_:(سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).



ومن الأذكار العظيمة الاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد في فضلهما آثارٌ كثيرةٌ، وألف في ذلك كتبٌ عديدةٌ، والمقام لا يتَّسع للتفصيل.





معاشر الصائمين:

الناس في الذكر على أربع طبقات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إحداها: الذكر بالقلب، واللسان، وهو المأمور به.



الثاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسنٌ، وإن كان مع قدرته فتركٌ للأفضل.



الثالث: الذكر باللسان فقط، وهو كون اللسان رطباً بذكر الله، ويقول الله_تعالى_ في الحديث القدسي:(أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه).



الرابع: عدم الأمرين، وهو حال الأخسرين).





أيها الصائمون:

للذكر مفهومٌ خاصٌ، وهو ما مضى الحديث عنه، وله مفهوم عامٌ شاملٌ، وهو كل ما تكلَّم به اللسان، وتصوَّره القلب، مما يقرب إلى الله، من تعلُّم علمٍ، وتعليمه، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر _فهو ذكرٌ لله.



ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقهَ الذي سماه الله ورسوله فقهاً، فهذا _أيضاً_ من ذكر الله.

وكذلك من قام بقلبه محبّةُ الله، وخوفُه، ورجاؤه،ونحو ذلك فهو من ذكر الله.



كما يدخل في الذكر تلاوةُ القرآن،والدعاءُ،والصلاةُ، وإفشاءُ السلام، وإصلاحُ ذات البين، ومخاطبة الناس بالحسنى.



ويدخل في ذلك الصدقةُ، ونشرُ الكتب، والدعوةُ إلى الله، فكلُّ ذلك وغيره، داخلٌ في عموم مفهوم الذكر.





اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.