رابعة العدوية.. زاهدة عابدة، من أبرز الشخصيات التاريخية التي ذاع صيتها بعد تأسيسها لمذهب الصوفية.. اشتهرت بروائعها الشعرية التي تنبض بحب الله..

ولدت في مدينة البصرة عام 100 هجرية، من أب عابد فقير يسمى اسماعيل، وقد أطلق عليها اسم رابعة لأنها رابع فتاة في العائلة العدوية..

توفي والدها وهي طفلة دون العاشرة ولم تلبث الأم أن لحقت به، لتجد رابعة وأخواتها أنفسهن بلا معيل، فذقن مرارة اليتم الكامل والفقر المدقع، خاصة وأن والدهن لم يترك لهن من أسباب العيش سوى قارب ينقل الناس بدراهم معدودة في أحد أنهار البصرة كما ذكر المؤرخ الصوفي فريد الدين عطار في "تذكرة الأولياء"، كانت رابعة تخرج لتعمل فيه ثم تعود بعد عناء تهون عن نفسها بالغناء وبذلك أطلق الشقاء عليها وحرمت من الحنان والعطف.

غادرت رابعة مع أخواتها بيت والديها بعد أن دب البصرة جفاف وقحط، وقد فرق الزمن بينها وبين أخواتها لتصبح وحيدة شريدة، هذا وأدت المجاعة إلى انتشار اللصوص وقُطَّاع الطرق، فخطفت رابعة من قبل أحد اللصوص لتباع بدراهم معدودات لأحد التجار القساة من آل عتيق البصرية، وتذوق سوء العذاب ووحشية المعاملة.

اختلف الكثيرون في سرد حياة رابعة العدوية، فقد صورتها السينما المصرية كفتاة لاهية تمرّغت في حياة الغواية والخمر والشهوات قبل أن تتجه إلى طاعة الله وعبادته، في حين يقول البعض أن هذه صورة غير صحيحة ومشوهة لرابعة في بداية حياتها، فقد نشأت في بيئة إسلامية صالحة وحفظت القرآن الكريم وتدبَّرت آياته وقرأت الحديث وتدارسته وحافظت على الصلاة وهي في عمر الزهور، وعاشت طوال حياتها عذراء بتولاً برغم تقدم أفاضل الرجال لخطبتها لأنها انصرفت إلى الإيمان والتعبُّد ورأت فيه بديلاً عن الحياة مع الزوج والولد.

ويفند الفيلسوف عبد الرحمن بدوي في كتابه شهيدة العشق الإلهي أسباب اختلافه مع الصورة التي صورتها السينما لرابعة بدلالات كثيرة منها الوراثة والبيئة، بالإضافة إلى الاستعداد الشخصي، وكان جيران أبيها يطلقون عليه "العابد"، وما كان من الممكن وهذه تنشئة رابعة أن يفلت زمامها، كما أنها رفضت الزواج بشدة.

رابعة تختلف عن متقدمي الصوفية الذين كانوا مجرد زهاد ونساك، ذلك أنها كانت صوفية بحق، يدفعها حب قوي دفاق، كما كانت في طليعة الصوفية الذين قالوا بالحب الخالص، الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده.

تمتعت رابعة بموهبة الشعر وتأججت تلك الموهبة بعاطفة قوية ملكت حياتها فخرجت الكلمات منسابة من شفتيها تعبر عما يختلج بها من وجد وعشق لله، وتقدم ذلك الشعر كرسالة لمن حولها ليحبوا ذلك المحبوب العظيم، ومن أشعارها في إحدى قصائدها التي تصف حب الخالق تقول:

عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك واغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواك

وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك

أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى وحــبــــا لأنـــك أهـــل لـــذاك

فــأما الــذي هــو حب الهــــوى فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك

وأمـــا الـــذي أنــت أهــل لــــه فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك

فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك

أحبــك حـبـيـن.. حــب الهـــوى وحــبــــا لأنــــك أهـــل لـــذاك

وأشتـاق شوقيـن.. شوق النـوى وشـوق لقرب الخلـي من حمـاك

فأمـا الــذي هــو شــوق النــوى فمسـري الدمــوع لطــول نـواك

وأمــا اشتيـــاق لقـــرب الحمـــى فنــار حيـــاة خبت فــي ضيــاك

ولست على الشجو أشكو الهوى رضيت بما شئت لـي فـي هداكـا

ومن روائعها أيضا:

فليتك تحلو والحيـاة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العـالمين خرا

إذا صح الود فيك فالكل هين وكل الذي فــوق التراب تراب

وهناك من يرى أن ما ورد من شعرها في العشق أبيات من قصيدة أبي فراس الحمداني في الأسر، وهو وارد في كل طبعات ديوانه.