من باب تفسير القرآن العزيز

] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ [*]

لا نذكر الآن ملخص ما أحصيناه من كلام مولانا مفتي الديار المصرية في تفسير هذه الآية وسائر آيات الصوم , بل ندع ذلك حتى يجيء وقته في الترتيب إذا أمهلنا الزمان , وإنما نذكر بعض الفوائد مما ذكره في حكمة الصيام التي تضمنها قوله تعالى : [ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ]( البقرة : 21 ) قال حفظه الله تعالى ما مثاله ملخصًا : كان الوثنيون يصومون ؛ لتسكين غضب آلهتم إذا عملوا ما يغضبهم , أو لإرضائهم واستمالتهم إلى مساعدتهم في بعض الشئون والأغراض , وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة والتزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة الجسد , وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب , وجاء الإسلام يعلمنا أن الصوم ونحوه يعدنا للسعادة بالتقوى , وأن الله غني عنَّا .
قلنا : إن معنى ( لعل )الإعداد والتهيئة , وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنًا , وأنصعها برهانًا , وأظهرها أثرًا , وأعلاها خطرًا ( شرفًا ) أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى , وسرٌّ بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه وتعالى , فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرض له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه , والخضوع لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظًا عند عروض كل رغيبة له من أكل نفيس وشراب عذب بارد وفاكهة يانعة وغير ذلك أنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له ؛ لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها .
لا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه وتعالى أن يراه حيث نهاه .
وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى , والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس ومؤهل لها لسعادة الروح في الآخرة .
كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضًا .
انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم ؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل ؟ هل يحتال على الله في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه ؟ هل يحتال على أكل الربا ؟ هل يقترف المنكرات جهارًا ؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله أستارًا ؟ كلا إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى .
وإذا نسي وألمَّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة [ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ]( الأعراف : 201 ) إنما روح الصوم وسره في هذا القصد والملاحظة التي تُحدث هذه المراقبة , وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى وقد لاحظه من أوجب من الأئمة تبييت النية في كل ليلة [1] .
ثم شرح الأستاذ حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمدًا , وذكر بعض حيل الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله كالأدنياء الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ , والذين يغطون في الجداول والأنهار ويشربون في أثناء ذلك .
وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه , والسر الذي أفشيناه فحسبوها عقوبةً كما كان يحسبها الوثنيون من قبل , وما كل إنسان يتحمل العقوبة راضيًا مختارًا .
وههنا شيء ذكره بعضهم ويشمئز الإنسان من شرحه وبيانه وهو أن الصوم يكسر الشهوة فتضعف النفوس ويعجز الإنسان عن الشهوات والمعاصي .
وفيه من معنى العقوبة والإعنات ما كان يفهمه الكثيرون من جميع مطالب الدين وراثة عن آبائهم الأولين من أهل الديانات الأخرى .
وإذا طبقنا هذا القول على ما نعهده وجودًا ووقوعًا ؛ لا نجد له واقعًا لأن المعروف أن الإنسان إذا جاع يحصل له ضراوة بالشهوات , وتقوى نهمته ويشتد قرمه , وآثار هذا ظاهرة في صوم أكثر المسلمين فإنهم في رمضان أكثر تمتعًا بالشهوات منهم في عامة السنة , فما سبب هذا وما مثاره ؟ ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتًا فيحمله التذكر على الرأفة والمرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رءوف رحيم ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك أمرهم بالتأسي به .
مهما تعددت وجوه فائدة الصوم فلا يبلغ شيء منها مبلغ الوجه الأول , وهو إنما يكون لمن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النية على ما قدمناه [2] ومن آية الصيام بهذه النيّة والملاحظة التحلي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن الصفات والخلال وفضائل الأعمال .