المبالغة في الشعر الجاهلي بين الأنا الفرد والأنا ا

هذا البحث شاركت به في المؤتمر الدولي للشعر الجاهلي في كلية الآداب جامعة بنها الذي عقد في شهر مايو 2011
المبالغة في الشعر الجاهلي
بين الأنا الفرد والأنا الجمعي
المبالغة أحد فنون البديع التي دار صراع كبير حولها بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، وذلك لما ارتبطت به من إفراط وغلو وفكرة الصدق والكذب، وهي قضية أخلاقية ينظر فيها كل ناقد من خلال منظوره الخاص، ورؤيته النقدية التي خرج من إطارها ما عرف بالصدق الفني أو الكذب الفني.
وما اختلف النقاد قديما وحديثا حول هذه القضية إلا بعد ظهور الإفراط والغلو في الشعر؛ فهذا ابن المعتز يقر بأن فنون البديع التي ثار حولها الجدل والنقاش في عصره كانت موجودة عند الأقدمين، وإن سر ارتفاع الأصوات حولها هو الإفراط فيها، والإكثار من إقحامها في الشعر فقال:" قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله( ) وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارًا ومسلمًا وأبا نواس ومن تقيّلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودلّ عليه. ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شُعفَ به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفنّ البيت والبيتين في القصيدة" .
المبالغة سمت الشعر الجاهلي:
فالبديع ومنه المبالغة بالطبع من الفنون المعروفة عند العربي الجاهلي، بل إن فن المبالغة كان من أهم الفنون التي اعتمد عليها الشعر الجاهلي في بدايته، فهذا المهلهل بن ربيعة أول من قصد الشعر، وبناه، كما أكد ابن قتيبة (ت276ﮪ) يقول:"هو عدي بن ربيعة، أخو كليب وائلٍ الذي هاجت بمقتله حرب بكرٍ وتغلب، وسمي مهلهلًا لأنه هلهل الشعر، أي أرقه. وكان فيه خنثٌ ويقال إنه أول من قصد القصائد، وفيه يقول الفرزدق:
ومُهَلْهِلُ الشُّعَراءِ ذاكَ الأَوَّلُ
وهو خال امرىء القيس، وجد عمرو بن كلثوم، أبو أمه ليلى وهو أحد الشعراء الكذبة، لقوله [الوافر]:
ولوْلاَ الرِّيحُ أُسْمِعَ أَهْلُ حَجْرٍ

صَلِيلَ الَبيْضِ تُقْرَعُ بالّذُّكُور( )


فقد وصفه ابن قتيبة بأحد الشعراء الكذبة للبيت السابق، واستشهد به ابن أبي الأصبع في باب المبالغة واعتبره من الشواهد المستحسنة، عاقدا مقارنة بينه وبين بيت امرئ القيس، فقال:"وقد قيل: إن هذا البيت أكذب بيت قالته العرب، وإن بيت امرئ القيس في صفة النار أقرب منه إلى الحق، لأن فيه ما يخلص به من الطعن، وهو اعترافه ببعد مسافة النار، وأنها لم يدنها إلا النظر العالي، وقالوا: حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، لأن أقوى سمع وأصحه إنما يسمع أعظم صوت من ميل واحد، بشرط حمل الريح ذلك الصوت إلى جهة السامع في الليل عند هدوء الأصوات وسكون الحركات، وحاسة البصر تبصر الجواهر الشفافة، والأجسام الصقيلة، والأجرام المضيئة من بعد يتجاوز الحد بغير واسطة، ورؤية النيران العظيمة المرتفعة مواقدها للناظر المرتفع مكانه ممكنة من البعد ما لم يمنع من ذلك ضوء النهار، ويحول مخروط ظل الأرض دونها...... فلهذا رجحوا بيت امرئ القيس( )على بيت مهلهل"( )، فقد استخدم الشاعران فن المبالغة بصورة عالية أحدهما في قوة النظر والثاني في حاسة السمع وبلغت الصورة الفنية حدًا كبيرا ف التصوير لقوة هذه الحاسة وهو ما دفع النقاد إلى الوقوف أماهما لتفضيل واحد منهما على الآخر فرجحت كفة الأقدم(المهلهل) لوجود قرينة فنية في قوة حاسة البصر عند بيت امرئ القيس تجعل مبالغته في منزلة أقل من منزلة بيت المهلهل في المبالغة.
والحقيقة إن هذا الأمر يدعو للتعجب؛ فإذا كان بيت المهلهل هو أكذب بيت قالته العرب حتى عصر ابن أبي الأصبع الذي مات في منتصف القرن السابع الهجري(654هـ)، فمعنى ذلك أن هذا البيت ظل صامدا كنموذج للمبالغة في الشعر أكثر من ثمانية قرون، ثم كانت المقارنة بين النقاد حتى ذلك القرن بين هذا البيت وبيت امرئ القيس أي أن المنافسة في فن المبالغة(أكذب بيت قالته العرب) لم تتجاوز العصر الجاهلي، وقد توافق ابن أبي الأصبع مع ابن قتيبة في لزوم الكذب لهذا البيت؛ بيد أن ابن قتيبة وصف الشاعر بأنه أحد الشعراء الكذبة، بينما كان تعليق ابن أبي الأصبع في كذب الشاعر نفسه، وأكد ذلك بشرحه مسوغات هذا الحكم النقدي، وهذا يؤكد إن العرب الجاهليين برعوا في استخدام المبالغة في الشعر، فيما يشبه المعجزة التي تقف متحدية الزمن، وهو ما اتفق عليه الناقدان على الرغم من الفارق الزمني الكبير بينهما"حوالي أربعة قرون".
ومع هذا فقد كانت المبالغة شديدة من المهلهل في شعره، والشعر وإن تطلب المبالغة لكن زيادتها عن المطلوب تجعلها تنتقل من المستحسن إلى المرفوض؛ فإذا وصفت بالكذب من نقاد قريبي عهد به فهذا يعني بالفعل خروجها عن حيز المطلوب إلى الإفراط، فقد انتقد النابغة البيت بصورة غير مباشرة فقال:
أتاك بقول هلهل النسج كاذب ولم يأت بالحق الذي هو ناصع
فقد استشهد به في معرض الكذب، وهذا يعد من باب التعريض، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه دوسوسير "ذلك أن أغاليط علم في مستهل بداياته تكون صورة مكبرة لما يرتكبه الأفراد من أخطاء في أبحاثهم العلمية الأولى" ، فلاشك أن هذا الخطأ كان مكررا وما وصلنا منه من صور نماذج له، أما اكتشاف ذلك فهو نوع من النقد التطبيقي المباشر .
ويبدو أن طبيعة الواقع الجاهلي كانت تفرض المبالغة باعتبارها عنصرًا مميزًا للشعر العربي، وبرز ذلك واضحا من خلال تفضيل شعر يحمل المبالغة على شعر آخر يفتقدها ولذلك عاب النابغة على حسان بن ثابت قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرقٍ
فأكرم بنا خالًا وأكرم بذا ابنما

وسر نقده أنه لم يبالغ فيه بصورة عالية فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا. وقلت: " يقطرن من نجدة دمًا " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسرًا منقطعًا"( )، فلو بالغ حسان واستخدم الألفاظ التي تدل على الغلو في شعره لنال الرضا من الناقد، أي أن المبالغة هنا عند الناقد الجاهلي هي المفضلة له عن غيره من الشعراء. وقد ذكر قدامة بن جعفر البيت الأول، ووقف موقفا متباينا إذ أيد موقف حسان، ورأى أنه أجاد في البيت مخالفا بذلك رأي النابغة الذبياني، وكان تعليله مطولا فقال:" فلو أنهم يحصلون مذاهبهم لعلموا أن هذا المذهب في الطعن على شعر حسان غير المذهب الذي كانوا معتقدين له من الإنكار على مهلهل، والنمر، وأبي نواس، لأن المذهب الأول إنما هو لمن أنكر الغلو، والثاني لمن استجاده، فإن النابغة - على ما حكى عنه - لم يرد من حسان إلا الإفراط والغلو بتصييره مكان كل معنى وضعه ما هو فوقه وزائد عليه، وعلى أن من أنعم النظر علم أن هذا الرد على حسان من النابغة - كان أو من غيره - خطأ بين، وأن حسان مصيب، إذ كانت مطابقة المعنى بالحق في يده، وكان الراد عليه عادلًا عن الصواب إلى غيره.
فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل الجفان بيضًا، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائمًا تلمع بالليل ويقل، لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال نارًا.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دمًا، ولم يسمع: سيفه يجري دمًا، ولعله لو قال: يجرين دمًا، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به ، ونلاحظ من نقد قدامة بن جعفر أنه ركز على ما اعتادت عليه الذائقة العربية في الوصف الشعري، ولو قال غير ذلك لخرج عن سمت العرب، ومع هذا فلم يهمل قدامة فن المبالغة، وقد شرح ذلك بأن أقل ضوء يلمع في الليل ولا يلمع بالنهار إلا الضوء الساطع، أي أنه ركز على المبالغة الشديدة في شعر حسان وإن كانت سارية على طريقة العرب في قول الشعر لا مجرد المبالغة بمفهومها اللفظي البعيد عن السياق الثقافي العربي.
لغة الشعر الجاهلي بين الذاتية والجماعية
وقد شَكَّلَ المجتمعُ الجاهلي نوعًا من الطبيعة الخاصة التي ميزته؛ فنظرا للحياة القاسية التي كان العربي الجاهلي يعيشها تكونت عنده مجموعة من العادات والتقاليد التي استقاها من طبيعة الأرض، فالفرد المطلق ليس له قيمة في ذاته؛ إذ يمكن قتله بسهولة وسلب ما معه، في مجتمع يعتمد الإغارة سبيل الرزق والحياة، وغالبا ما يصبح هو نفسه - أي الإنسان - الهدف للاستعباد الشخصي أو للبيع، لذلك فقد أصبحت قيمة الإنسان في الجماعة لا الفردية، الفرد لا يملك حماية نفسه، ولا قيمة له وسط هذا المجتمع الذي يعتمد لغة القوة في الحوار إلا وسط قبيلته. ومن هنا سيطرت لغة النحن/القبيلة على واقع الحياة الجاهلية.
هذا الأمر لم يمنع ذاتية الشاعر من الظهور، وبخاصة في الصورة الرومانسية التي تبرز فيها الذاتية إلى حد كبير كما يقول عنترة في قصيدته الشهيرة
سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ


وَظنُّوني لأَهلي قَدْ نسِيتُ



وكيفَ أنامُ عنْ ساداتِ قومٍ

أنا في فَضْلِ نِعْمتِهمْ رُبيت


وإنْ دارْتْ بِهِمْ خَيْلُ الأَعادي

ونَادوني أجَبْتُ متى دُعِيتُ


بسيفٍ حدهُ موجُ المنايا

وَرُمحٍ صَدْرُهُ الحَتْفُ المُميتُ


خلقتُ من الحديدِ أشدَّ قلبًا

وقد بليَ الحديدُ وما بليتُ


وَإني قَدْ شَربْتُ دَمَ الأَعادي

بأقحافِ الرُّؤوس وَما رَويتُ


وفي الحَرْبِ العَوانِ وُلِدْتُ طِفْلا

ومِنْ لبَنِ المَعامِعِ قَدْ سُقِيتُ


فما للرمحِ في جسمي نصيبٌ

ولا للسيفِ في أعضاي َقوتُ


ولي بيتٌ علا فلكَ الثريَّا



تَخِرُّ لِعُظْمِ هَيْبَتِهِ البُيوتُ




إن هذه القصيدة في الفخر بوصفها خطابًا يهدف من خلاله المرسل بث رسالة إلى متلق ذي طبيعة معينة، هو العربي الذي تشبع بالفكر القبلي؛ فهي تسير وفق نسق ثقافي معين، فرضته البيئة الثقافية على عنترة، ومن ثم برزت بقوة في خطابه الشعري، وكان عنترة في صراع جدلي نفسي مجتمعي، برزت ملامح هذا الصراع قوية في ثنايا هذا النص، ولاشك في حدوث نوع من الذاتية الممتزجة بالعشق القبلي، ولم تخلُ الأبيات من المبالغة الواضحة التي استخدمها عنترة للتأكيد على الفخر بانتسابه إلى عبس، وبلغت المبالغة ذروتها في البيتين السابع والأخير؛ فعنترة في البيت السابع يقول إنه ولد وسط الحروب القوية الضروس أي ظهرت موهبته ومهارته وعلا اسمه في هذه الحروب التي خاضها منذ صغره، وزادت مبالغته بتأكيده على أن مهارته التي ظهرت مبكرًا فلم يرضع من أمه ولكنه رضع من لبن المعامع، فهذا فخر بالغ فيه بصورة كبيرة أما البيت الأخير فغالى في الفخر، وزاد في المبالغة بصورة كبيرة، فوصف بيته بالعلو فوق كل البيوت، حتى جاوز الثريا(كل النجوم) وهذا البيت تخر البيوت (كنابة عن العظام الذين يتفاخرون بعظمتهم) له من شدة هيبته، وهو هنا في هذه الصورة المبالغة يتلاقى مع الخنساء عندما وصفت أخاها صخرًا في قولها:
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم مضى مصعدا

يكلفه القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا

ترى الحمد يهوي إلى بيته



يرى أفضل الكسب أن يحمدا




والفرق بين مبالغة عنترة والخنساء أن الخنساء بالغت في وصف أخيها بالمجد وعلو الشأن في أربعة أبيات بينما عنترة قال المعنى نفسه في بيت واحد، بل كانت مبالغة عنترة في البيت أقوى منها في أبيات الخنساء.
وعلى الرغم من الذاتية الرومانسية التي سيطرت على الخطاب الشعري عند عنترة، فإنه لم ينفصل عن قومه، فقد قرن نفسه بهم، وأكد ذلك في الأبيات الثلاثة الأولى، من هنا برزت ظاهرة الانتماء من خلال ارتباط الفرد بقبيلته، ولاشك أن هذه الظاهرة مرتبطة بالفضائل لا بالرذائل من وجهة نظر القبيلة/الشاعر، والتي لها معاييرها الخاصة التي ربما لا نتفق عليها؛ فالفضيلة رغم وضوح معاييرها إلا أنها ذات طبيعة خاصة فمثلا السلب والإغارة والإغالة وقطع الطريق إذا قسناها بمفهومنا اليوم تعد من المثالب بل إذا قسناها بالمفاهيم الإسلامية التي جاءت في القرآن الكريم تعد من الجرائم التي توجب حد الحرابة، لكنها في العصر الجاهلي حملت مفاهيمها الخاصة وقوانينها التي لا تفهم إلا من خلال سياق خاص بها، إن عنترة فشل في إقناع قومه في الاعتراف بنسبه إليهم وعندما فشل اعتزلهم، وهذا الفشل كان دافعا للثورة عليهم، وهو أمر لم تقبله نفسه الآبية لأنه يشعر أنه جزء من قبيلته، ويجب على الباحث أن يعي جيدا فكرة الجماعية التي تبتعد تماما عما يعرف بالفردية إلى الاتحاد الجمعي أو الارتباط الجماعي، يربط بينها روابط محددة أهمها المصالح المشتركة؛ وتبرز هنا فكرة القبيلة التي تمثل الأم الحقيقية لكل رجالات القبيلة، لأن المصلحة مشتركة، والاقتتال على موارد الماء ومنابت الكلأ ظل هو الرابط الحقيقي بين أفراد القبيلة، فتصبح الأرض محل الصراع ممثلة للتضامن والالتقاء بين الأفراد والقبائل.
وهذا الأمر ظهر جليا واضحا في أبيات عمرو ابن كلثوم وفيها يبالغ الشاعر في الوصف بصورة كبيرة ومنها:
وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ غيرَ فَخْرٍ

إذا قُبَبٌ بِأَبْطَحِهَا بُنِينَا

بِأَنَّا العاصِمُونَ، إذا أُطِعنا

وَأَنَّا الغارِمُونَ، إذا عُصِينَا

وَأَنَّا المُنْعِمُونَ، إذا قَدَرْنَا
وَأَنّا المُهْلِكُونَ، إذا أُتِينَا

وَأَنّا الحاكِمُونَ بما أَرَدْنا
وأَنّا النّازِلونَ بِحَيْثُ شَينَا

وَأَنّا التّارِكُونَ لِمَا سَخِطنا
وَأَنّا الآخِذُونَ لِمَا هَوِينَا

وَأَنّا الطّالِبونَ، إذا نَقَمنا
وأَنّا الضّارِبُونَ، إذا ابتُلينَا

وأَنّا النّازِلُونَ بِكُلّ ثَغْرٍ
يَخَافُ النّازِلُونَ بِهِ المَنُونَا

وَنشْرَبُ، إنْ وَرَدْنا، الماءَ صَفوًا
وَيَشْرَبُ غَيْرُنا كَدَرًا وطِينَا

فهذه الأبيات في الفخر كانت ذات نبرة عالية الصوت في الخطاب، وقد أثارت خلافات كثيرة لمدد طويلة بين النقاد وما زالت، ومن ذلك ما رواه ابن أبي الأصبع في التحرير بقوله:"ومن أناشيد قدامة فيما جاء من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول صالح بن جناح اللخمي:
لئن كنت محتاجًا إلى الحلم إنني
إلى الجهل في بعض الأحايين أحوجُ

ثم فطن الشاعر إلى أنه أجمل في قوله: وإن كنت محتاجًا إلى الحلم، فإنني في بعض الأوقات إلى الجهل أحوج، ولم يبين كونه إذا احتاج إلى الجهل واضطر له هل يقدر على أن يجهل؟ فقال في البيت الثاني:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم
ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

فبين أن عنده حلم لمن يعامله بالحلم، وجهل لمن يعامله بالجهل، وهذا بسط قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا


لكن بيت ابن جناح أمشى على سنن العدل من بيت ابن كلثوم لاستضاءته بنور القرآن العزيز، وتأدبه بأدبه لأنه عقد بالوزن قوله تعالى: " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ "( ) . ا
ثم فطن - أعني ابن جناح - إلى كونه لم يتبين العلة التي تحوجه إلى الجهل، فقال في البيت الثالث :
فمن شاء تقويمي فإني مقوم


ومن شاء تعويجي فإني معوج( )