السؤال
قرأت في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم سطرًا لم أفهم له تفسيرًا قط، فقد ورد في فصل: جواز الحكم في السلطنة بالسياسة الشرعية وأنه الحزم ـ في الصفحة 22 من بعض النسخ، والذي يظهر أنه اقتباس من ابن عقيل في كتابه الفنون، ونصه: "وقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل، والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن" فهل تم فعلًا من الخلفاء الراشدين تمثيل؟ أم أنني أسأت فهم النص؟ وهل يعتبر أي عمل فعله الخلفاء الراشدون سنة يقتدى بها، ولو كانت سبقًا -جزاكم الله خيرًا-؟


الإجابــة



[color:9d21=ff0000]الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالمثلة هي: العقوبة الشنيعة، كما جاء في الشرح الكبير [color:9d21=800000]للدردير، وقد ذكر [color:9d21=800000]ابن عقيل نفسه في بقية كلامه مثالًا على ذلك، وهو: [color:9d21=6600cc]تحريق علي ـ رضي الله عنه ـ الزنادقة في الأخاديد.

وقد أوضح [color:9d21=800000]ابن القيم السياسة الشرعية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [color:9d21=6600cc]وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه، فمن ذلك: أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حرق اللوطية، وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك قال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك، فإن خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلًا ينكح كما تنكح المرأة ـ فاستشار الصديق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفيهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكان أشدهم قولًا، فقال[color:9d21=6600cc]: [color:9d21=6600cc]إن هذا الذنب لم تعصِ به أمة من الأمم إلا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن يحرقوا بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقوا بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقوا، فحرقهم، ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك، وحرق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حانوت الخمار بما فيه، وحرق قرية يباع فيها الخمر، وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية، ومن ذلك تحريق علي - رضي الله عنه [color:9d21=6600cc]- الزنادقة الرافضة، وهو يعلم سنة رسول الله في قتل الكافر، ولكن لما رأى أمرًا عظيمًا جعل عقوبته من أعظم العقوبات؛ ليزجر الناس عن مثله، وهذا الذي ذكرناه جميع الفقهاء يقولون به في الجملة، وإن تنازعوا في كثير من موارده. اهـ.

وقال الحافظ [color:9d21=800000]ابن حجر في فتح الباري: [color:9d21=6600cc]رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص، من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم، فقال لهم: ويلكم، ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا، وخالقنا، ورازقنا! فقال: ويلكم، إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر، ائتني بفعلة معهم مرورهم، فخد لهم أخدودًا بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب، فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، [color:9d21=6600cc]فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا، قال:

[color:9d21=6600cc]إني إذا رأيت أمرًا منكرا ** أوقدت ناري ودعوت قنبرا ـ وهذا سند حسن. اهـ.

وهذا مثال واضح لمن يستحق التمثيل بالإحراق في حكم أمير المؤمنين [color:9d21=800000]علي ـ رضي الله عنه ـ وقد خولف -رضي الله عنه- في ذلك، فروى [color:9d21=800000]البخاري عن [color:9d21=800000]عكرمة قال: [color:9d21=6600cc]أتِي عليٌّ -رضي الله عنه- بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذبوا بعذاب الله ـ ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه.

قال [color:9d21=800000]ابن حجر: [color:9d21=6600cc]اختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر، وابن عباس، وغيرهما مطلقًا، سواء كان ذلك بسبب كفر، أو في حال مقاتلة، أو كان قصاصًا، وأجازه علي، وخالد بن الوليد، وغيرهما، وسيأتي ما يتعلق بالقصاص قريبًا، وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمي، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسًا من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري، والأوزاعي، وقال ابن المنير، وغيره: لا حجة فيما ذكر للجواز؛ لأن قصة العرنيين كانت قصاصًا، أو منسوخة كما تقدم، [color:9d21=6600cc]وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقًا للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 33698.

وأما السؤال الثاني: فجوابه أن سنة الخلفاء الراشدين هي العمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بها، فإذا نزلت نازلة ولم يوجد في خصوصها نص شرعي، ولا حكم نبوي، فإنهم يجتهدون، فإن اتفقوا فاتفاقهم سنة، كما في مسألة جمع القرآن في عهد الخليفتين: [color:9d21=800000]أبي بكر، وعثمان، وإن اختلفوا، لم يكن اجتهاد أحدهم حجة على اجتهاد الآخر، كما في مسألة التحريق السابقة، فكرهها [color:9d21=800000]عمر، وفعلها [color:9d21=800000]علي، فلولي الأمر من بعدهم أن يجتهد في اختيار الأوفق، قال [color:9d21=800000]الخطابي في معالم السنن: [color:9d21=6600cc]في قوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ـ دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه فيه غيره من الصحابة، كان المصير إلى قول الخليفة أولى. اهـ.

وقال [color:9d21=800000]ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: [color:9d21=6600cc]أمر صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين:

[color:9d21=6600cc]أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر.

[color:9d21=6600cc]والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة. اهـ.

وقال [color:9d21=800000]ابن رجب في جامع العلوم والحكم: السنة: [color:9d21=6600cc]هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال... واختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة: هل هو إجماع، أو حجة، مع مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد... ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولًا، ولم يخالفه منهم أحد، بل خالفه غيره من الصحابة، فهل يقدم قوله على قول غيره؟ فيه قولان أيضًا للعلماء، والمنصوص عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة، وكذا ذكره الخطابي، وغيره، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك، وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها، فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرًا. اهـ. 

وراجع للفائدة الفتويين رقم: 50493، ورقم: 57702.

والله أعلم.