روائع الأسحار



ما منّا أحد إلاّ وقد لمس روعة الأسحار وذاق حلاوتها ففي سكونها الرهيب تفيض المشاعر الحانية وتنمو الأحاسيس الملتهبة لتثير في القلوب أشجانها وتمدها بمادتي حياتها الحزن والفرح وكأنّي بها تريد تسلية المصاب ومسح الكآبة عن الأفئدة والأرواح فهي تمسح بصفائها الأكدار وتنير ببهائها الوجوه والديار فانظر لضيائها وقد عمّ السبل والطرقات وأنظر لجمالها وهو ينساب في النفس فيغري الجسد بالنشاط بما يمنحه من حيوية وحبور وأنظر لنسائمها كيف تعانق وجهك وتلهو بخصلات شعرك وأنت على جالس على ربوتك تنظر إلى خط الأفق وكأنّك تنتظر غائبا طال إنتظاره وانقطعت عنك أخباره لا يؤنس وحشتك غير تلك الأصوات 
العجيبة للأجراس المعلقة بالقطيع لا تكاد تخفت رنّاتها حتى يعلو خرير المياه المتدفقة لينعش فؤادك فيا له من منظر مهيب

لاح الصباح براية بيضاء ... وسطا ففرق عسكر الظلماء
والروضة الغناء قام هزازها ... يشدو فأشجانا بطيب غناء
والغصن لاح لنا بتاج أزاهر .. متكلّل بجواهر الأنداء


قال الأزهري : ( السحر قطعة من الليل . وأسحر القوم : صاروا في السحر ؛ كقولك : أصبحوا . وأسحروا واستحروا : خرجوا في السحر . واستحرنا أي صرنا في ذلك الوقت )

وقال ابن منظور : (قيل : أسحار الفلاة أطرافها . وسحر كل شيء : طرفه . شبه بأسحار الليالي وهي أطراف مآخرها ; أراد مغمض أطراف خبوته فأدخل الألف واللام فقاما مقام الإضافة . وسحر الوادي : أعلاه . الأزهري : سحر إذا تباعد ، وسحر خدع ، وسحر بكر . واستحر الطائر : غرد بسحر ; قال امرؤ القيس : 

كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر 
يعل به برد أنيابها .... إذا طرب الطائر المستحر )

ومن هذا القبيل قوله عزّ وجلّ في سورة هود : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( 114 )) . 

وقد جاء في القرآن الكريم بيان فضل هذا الوقت وبركته والثناء على أهله القائمين بما يرضي الله فيه فهي ساعة تجاب فيها الدعوة وتفتح فيها ابواب الجنة ويبشّر فيها المؤمنون

قال الله عزّ وجلّ : ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( 17 ) وبالأسحار هم يستغفرون ( 18 ) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( 19 ) ) 

يقول الإمام الطبري رحمه الله : (حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وبالأسحار هم يستغفرون ) قال : هم المؤمنون ، قال : وبلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يعقوب حين سألوه أن يستغفر لهم ( يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا - قال سوف أستغفر لكم ربي ) قال : قال بعض أهل العلم : إنه أخر الاستغفار إلى السحر . قال : وذكر بعض أهل العلم أن الساعة التي تفتح فيها أبواب الجنة : السحر . 
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن زيد يقول : السحر : هو السدس الأخير من الليل . )
قال القرطبي رحمه الله : ( قوله تعالى : وبالأسحار هم يستغفرون مدح ثان ; أي يستغفرون من ذنوبهم ؛ قاله الحسن . والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء )

وقال ربّنا جلّ وعلا في سورة آل عمران : ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ( 16 ) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ( 17 ))

يقول العلامة الطبري بعد سرده لأقوال العلماء في شرح هذه الآيات : (وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : " والمستغفرين بالأسحار " قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها . 
" بالأسحار " وهى جمع " سحر " . 
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء . وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء ). 

ختاما : لقد ثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له) متفق عليه. 

فاللهم اجعلنا من المتقين المستغفرين بالأسحار وصل اللهم وسلم على محمد وآل محمد وبارك اللهم على محمد وآل محمد إنّك أنت الحميد المجيد