المفاهيم هي التي تقود الفكر وتوجهه, فإذا كانت المفاهيم تقدمية, كان الفكر تقدميا يقود المجتمع نحو آفاق رحبة من التقدم في كافة المجالات. والعكس صحيح, فمتى ما كانت المفاهيم رجعية,أو لا تحمل فيما تعطيه من محددات مفهومية أي نزعة نحو الإصلاح بمعناه التجديدي الثوري, كان الفكر, وبالتالي, المجتمع الحاض له, على موعد مع الارتهان لماضوية ترتكس به في ظلمات الجهل والتأخر في كافة الميادين, أو تجعله-على الأقل- رهين واقع لا يتطلع, بحكم ضعف بنية مفهوم الإصلاح لديه, إلى التغير نحو الأفضل, تغيراً حقيقياً, وليس شكلياً ديكورياً!

تعتمد مصادرنا التقليدية منها والمحدثة, على ما يسمونه «تحرير مكمن النزاع» في المسألة المعروضة للنقاش, وهذا التحرير يُعنى بتحرير مناط الخلاف وفقاً لمفهوم المسألة: لغة واصطلاحاً. الأمر الذي يعني الانطلاق من أرضية مفهومية تستبطن معنى هو المراد بعينه في سياق مناقشة المسألة المعروضة للنقاش, أو المختلف عليها.

إن الإصلاح هنا يعني إدخال تغيير- كبيرا كان أو صغيرا- على صورة الشيء المراد إصلاحه, سواء أكان جماداً أم فكرة أم رأياً أم سياسة أم نظاماً, اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيره... وإذا اعتبرنا الدولة «صورة» لمجموعة من السكان الذين يشكلون» المادة»، فإن الإصلاح يجب أن يتجه وفقاً لهذا المفهوم أولاً وقبل كل شيء إلى الدولة كصورة للمجتمع.

هناك الكثير من المفاهيم المعاصرة, ومعظمها غربية الأصل, التي إما أنه لا يوجد لها أساس مفهومي في ثقافتنا, وإما أن مفهومها-عربياً- يختلف تماماً عن معناها الرائج. خذ مثلاً مفهومي»الوطن المواطنة»,المفهوم الأول له وجود في قواميسنا اللغوية, لكن بمعنى يختلف تماماً عن معناه الحديث الذي انبثق للعالم المعاصر بالتزامن مع تباشير الثورة الفرنسية عام 1780م. أما المفهوم الثاني فلا وجود له في لغتنا القاموسية, وإنما نشتقه نحن اشتقاقاً مفصلاً على مقاس مفهومنا التقليدي ل»الوطن».

مفهوم»الإصلاح» مثله مثل المفاهيم الأخرى, التي راجت في سياقنا المعاصر, وخاصة في الفترة التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م, عندما أصبح موضع مناداة فئام من داخل العالم الإسلامي لإجراء إصلاح حقيقي, في مجال الفكر الديني خاصة, وهو الفكر الذي صعدت على مركبه الموجة الإرهابية المعاصرة. مع ذلك, فإن مفهوم»الإصلاح» في المجال العربي الإسلامي يختلف تماماً عن مجاله في الثقافة الأوروبية. والأسطر التالية توضح هذا الفارق.

تتحدد لفظة»إصلاح» في الثقافة الأوروبية, كما يذكر الدكتور: محمد عابد الجابري في كتابه( في نقد الحاجة إلى الإصلاح), بكلمة»reforme», وهي كلمة تتكون من جزأين: لاصقة»re» بمعنى»إعادة»و»forme» بمعنى الشكل الحالي الذي عليه الشيء أو الأمر أو النظام أو الفكر المراد إصلاحه. وهذا يعني أن معنى الكلمة هو»إعادة الصياغة أو التشكيل», وبعبارة أخرى:»إعطاء شكل, أو صياغة أخرى لذلك الأمر المراد إصلاحه».

أما لفظة»الإصلاح» في الثقافة العربية الإسلامية فلا يمكن تحديدها أو تعريفها إلا بالإحالة إلى ضدها»الفساد», كما أن «الفساد» يتحدد من جهته بالإحالة إلى ضده «الإصلاح», وهكذا. بمعنى أن الإصلاح يعني إصلاح ما فسد من الأمر أو الشأن أو المجال, وبالتالي فإن أفضل ما يمكن أن ينشده الإصلاح, وفقاً لمفهومه في الثقافة العربية الإسلامية, هو إعادة الشيء إلى ما كان عليه سابقاً قبل أن يطرأ عليه الفساد. أما ما يتعلق بتعديل,أو إعادة صياغة,أو إعادة تشكيل,أو (تأويل) الشيء أو الفكرة أو المعتقد, فذلك ما لا يستبطنه المفهوم العربي الإسلامي ل»الإصلاح». بمعنى أن أقصى مايمكن أن يعطيه الإصلاح في الناحية العربية الإسلامية يكمن في وقوفه محايداً تجاه الأفكار والسياسات والمعتقدات والأنظمة وما يدور في فلكها مما يمكن أن ينشده الإصلاح بمعناه الحقيقي.

لكل من المفهومين: العربي الإسلامي والأوروبي، سلف يستقي منه مضمون الإصلاح الذي يتبناه. بالنسبة للثقافة الأوروبية, ودائماً حسب الجابري, فإنها تستقي مضمون مفهوم الإصلاح من ذلك الفصل الحاسم الذي تقيمه الفلسفة اليونانية بين المادة والصورة بالنسبة للموجودات الأرضية. كل موجود أرضي مكون من مادة وصورة, والمادة لاشكل لها(=خام), الأمر الذي يجعلها قابلة للتشكل بأشكال مختلفة وفق الصورة التي يراد لها أن تأخذها. أرأيت الشمع كمادة؟ إنه قابل لتشكيله(=تصويره) بأشكال مختلفة, من صورة فرس إلى صورة أسد إلى صورة إنسان. هذا التشكيل المتعدد على مستوى الصورة لا يمس المادة التي تبقى على حالها الأزلية الأبدية قابلة لتشكيلها بأي صورة, كما أنها قابلة بعد ذلك لإجراء أي تعديلات أو تغييرات,ربما جذرية,عليها.

من هذا الفصل الحاسم بين المادة والصورة, وانفراد الصورة وحدها دون المادة بالتشكيل وإعادة التشكيل, انفردت الثقافة الأوروبية باستبطانها مفهوماً تقدمياً واسعاً للإصلاح. إن الإصلاح هنا يعني إدخال تغيير- كبيرا كان أو صغيرا- على صورة الشيء المراد إصلاحه, سواء أكان جماداً أم فكرة أم رأياً أم سياسة أم نظاماً, اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيره, وما أشبه. ويدلل الجابري على عمق مضمون مفهوم «الإصلاح» الغربي من خلال إمراره بمفهوم ثنائية (المادة والصورة) بالقول: إذا اعتبرنا الدولة «صورة» لمجموعة من السكان الذين يشكلون» المادة» فإن الإصلاح يجب أن يتجه وفقاً لهذا المفهوم أولاً وقبل كل شيء إلى الدولة كصورة للمجتمع.

من هذه المقارنة يتضح أن «الإصلاح» العربي الإسلامي مكبل بالمعوقات المفهومية قبل المعوقات البنيوية. إن الإصلاح هنا لا ينطلق, كما هو الشأن في الإصلاح الغربي, من ثنائية: أحد طرفيها مادة خام غير متعينة, قابلة للتشكل بأي صورة, بل إن معناه يتحدد- كما سبق وأن أوضحنا- بضده الفساد, الذي قد يحدث في الشيء عموماً, في ماهيته أو صورته, أو في كليهما معا. وزيادة على ذلك ف»الإصلاح» العربي لا يروم إدخال تشكيل أو صياغة جديدة على الشيء المراد إخضاعه ل»الإصلاح», بل إن كل ما يطمح إليه هو إعادة الشيء إلى ما كان عليه قبل تعرضه للفساد. وهذا المعنى-أعني إعادة الشيء إلى ما كان عليه قبل الفساد, وهو المعنى المقصود أساساً من الإصلاح العربي, يقابل في الثقافة الأوروبية لفظة»reparer»,أي إعادة الشيء إلى وضعه السابق.

ذلك يعني أن الإصلاح العربي مكبل بالمعوقات المفهومية بالشكل الذي لا يستطيع معه الانفكاك من أسرها, وكل ما يطمح إليه هو إعادة (الأمةّ) إلى ما كانت عليه إبان السلف «الصالح». ويموضع الداعون إلى الإصلاح, خاصة من يعتبرون أنفسهم معتدلين أو منفتحين من داخل الخطاب السلفي, مقولة أو شعار»لايصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها». وهي مقولة تنسب للإمام مالك بن أنس. وهذه المقولة, بالإضافة إلى أنها لا تدعم الاتجاه الإصلاحي في شيء, فهي مقولة قال بها مالك عندما نُقل له أن أناساً يزورون بعض قبور الصالحين, ومنها قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم للتبرك بها, فكان أن أوضح أن ذلك(= زيارة القبور) مما لم يعهده هو في السلف(=أهل المدينة), وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة(= السياق الزمني الذي كان يعيش فيه الإمام مالك) إلا ما أصلح أولها من توحيد الله تعالى واجتناب ما يخدشه من قبيل التبرك بالقبور. وهذا يعني أن لا علاقة لتلك المقولة ب»الإصلاح» الذي يتطلع إليه حتى من يعتبرون أنفسهم إسلاميين معتدلين أو متنورين !.