كلنا في حاجة لإرشاد نفسي تربوي!
د. عماد لطفي ملحس
تـُجمع نظريات الإرشاد والعلاج النفسي التي وضعت خلال المائة عام الأخيرة، على تحكـّم العامل النفسي لدى الإنسان في بناء شخصيته وبلورة نمطها، وفي تحديد سلوكاته الاجتماعية المتنوعة عبر مراحل حياته المختلفة. وتربط النظريات البيولوجية الحديثة بقوة بين العوامل النفسية والأمراض الجسدية، فيما أصبح يعرف بالأمراض النفسية – الجسدية (Psycho-somatic Diseases)، حتى أن بعضها يبالغ بردّ كل مرض عضوي مهما كان نوعه إلى الجوانب النفسية المعقـّدة لدى بني البشر، رغم أن ذلك ما يزال موضع دراسة العلماء والأطباء وتمحيصهم.
وتتباين هذه النظريات في تحديد العامل الأساس المحرّك للعوامل النفسية الأخرى، التي تنتج السلوكات والأمراض المختلفة، فتنطلق منه نحو المعالجة النفسية والتربوية. ف"النظرية التحليلية" للإرشاد والعلاج النفسي التي وضعها العالم فرويد، رائد علم النفس الحديث، تعتبر مرجعاً في " تفسير السلوك الانساني، وتشخيص الاضطراب، وفهم الشخصية وصراعاتها، وآليات الدفاع "، وغير ذلك من مفاهيم أساسية، رغم اختلاف الكثيرين معها. وهي تعتبر الفرد محكوماً بغرائز جنسية وعدوانية، وبخاصة في مرحلة الطفولة المبكرة، التي لها القول الفصل في بلورة شخصية الانسان في المراحل اللاحقة. أما " النظرية الإدلـرية " فهي رغم اعترافها بأهمية مرحلة الطفولة وتأثيراتها المستقبلية،إلا أنها تركّز على الطبيعة الإيجابية للبشر. وتذهب النظرية " الوجودية " مذهباً آخر في تأكيدها على الظروف الحياتية والبيئية للبشر، بينما ترى " النظرية الجشطالتية " المأخوذة من كلمة ألمانية معناها " الكل "، ان الكل أكبر من مجموع الأجزاء المكونة له، وأن الأفراد يسلكون بطريقة كليّة، وأن السلوك البشري لا يعتبر سيئا أو جيدا بقدر ما يعتبر فعّـالاً أو غير فعّـال. وتعتبر " النظرية السلوكية" أن السلوك هو نتاج التعلّم، وأن السلوك التكيفي وغير التكيّفي يتم تعليمهما بمباديء التعلّم ذاتها.. وكذا الحال بالنسبة لنظريات " التمركز حول الشخص " و" التحليل التفاعلي " و" النظرية الواقعية " و" النظرية العقلانية – العاطفية – السلوكية "، حيث تركز كل منها على جانب تعتبره حجر الزاوية بالنسبة للجوانب الأخرى.
وتتفاوت طرق العلاج النفسي والتربوي وأساليب تعديل السلوكات البشرية. فهناك علاج بالتحليل النفسي، وعلاج إدلري، وآخر وجودي، وعلاج متمركز حول الشخص، وعلاج بالتحليل التفاعلي، وعلاج سلوكي.. وهكذا.. ولكل علاج مجال خاص في التطبيق، فما يصلح في حالة معينة ليس بالضرورة أن يكون صالحاً لعلاج حالة أخرى، فالعلاج بالتحليل النفسي مثلاً " لا ينصح به للمتمركزين حول ذواتهم، أو الذين لديهم مشكلات غير دفينة او عميقة"، بينما يمكن تطبيق العلاج الإدلري في جميع اتجاهات الحياة مثل " الإرشاد الأسري، وارشاد الآباء والأطفال، والزواج، والإرشاد الفردي مع الصغار أو الكبار ".. لذا وجب أن يتمتع المعالج (الطبيب أو المرشد) بمعرفة وخبرة وافيتين من الناحيتين النظرية والتطبيقية، حتى يتمكّن من إفادة المـــسترشد (المريض، أو الشخص الذي يلجأ إلى المرشد لإرشاده، أو الشخص المستهدف بالإرشاد).
إن الإرشاد النفسي والتربوي علم قائم بذاته، وهو ليس تهويمات نظرية كما يعتقد البعض، بل ان تراكم المعرفة التاريخية في هذا المجال، وسعي العلماء الدائم لسبرأغوار النفس البشرية وفهم مكنوناتها، قد أدّيا إلى الاقتراب الفعّال من معالجة كثير من المشكلات والعقد النفسية، التي هي محور العملية التربوية. ويتداخل هنا علم فسيولوجيا الدماغ مع علم النفس والتربية.. فدماغ الإنسان الذي يزن حوالي 1.4 كيلوغراما فقط، ويشكل ما لا يزيد عن 2% من وزن الجسم الكلي، ويحتوي على شبكة مكوّنة من حوالي مائة مليار خلية متنوعة، في كل منها عشرة آلاف نقطة اتصال، والذي اذا فردت تلافيفه شكّلت مساحة لا تقل عن 2.5 متراً مربعاً، واذا ما فردت وصلاته شكّلت حبلاً طوله 160 كيلومتراً، هذا الدماغ البشري الجبّار ينتج 20% من طاقة الجسم الكليّة، وهو مسؤول عن جميع العمليات الحيوية والسلوكات وردود الأفعال العضوية والنفسية للجسم. مقدّمته (فصّه الأمامي) مسؤول عن تكوين الشخصية والسلوك، وجانبه مسؤول عن القياس والتقديرات الحسابية والرياضية، ومنطقته الصدغية مسؤولة عن الإدراك والمشاعر، والخلفية عن النظر، اما منطقته السفلية فمسؤولة عن الكلام والسمع.. هذا هو الدماغ مصدر العقل والإدراك والسلوك، ومنشأ الإلهام والخيال والإبداع، ومختبر التكوينات النفسية المختلفة. وهو يتفاعل مع البيئتين الداخلية والخارجية لينتجا معاً السلوك الانساني..
ومع ذلك، فإن ما توصل إليه العقل البشري في مجال فكّ طلاسم الدماغ ومكنونات النفس البشرية، ليس الا ّ جزء يسيراً من المعرفة، حيث ما تزال المجهولات والأسئلة المحيّرة تشكل الجانب الأكبر في هذه المكوّنات المعقـّدة.
هكذا يحتل علم الإرشاد النفسي والتربوي مكانة مهمة بين العلوم الطبية والإنسانية، حيث لا تقتصر استخداماته على فئة عمرية أو اجتماعية دون أخرى، ولا على مشكلات بعينها، بل انه موجـّه لجميع الفئات، ومكـرّس لمعالجة المشكلات والاضطرابات النفسية والسلوكية على اختلاف أنواعها ودرجاتها.. أما تطبيقاته العملية في بلادنا فمن المؤسف القول إنها ما تزال جنينية متأخّرة، فالغالبية العظمى من مدارسنا الحكومية والخاصة تخلو من مرشدين نفسيين وتربويين متخصصين لجميع مراحل الدراسة، بينما لا وجود لهم في الكليات والجامعات والمؤسسات المختلفة، في ظل الاعتقاد الخاطيء السائد بأن الانسان المريض أو المنحرف فقط هو من يحتاج طبيباً نفسياً أو مرشداً نفسياً تربوياً..
ان تعقيدات الحياة المتزايدة باضطراد، والضغوط النفسية الهائلة التي يتعرّض لها الانسان بعامّة، والعربيّ بخاصّة، تجعله بحاجة إلى إرشاد نفسي وتربوي متـّصل، مهما كان وضعه الاجتماعي أو فئته العمرية أو مستواه التعليمي.. ولن تتحقق الفائدة المرجوّة الا ّ إذا اقتنع المسترشد أساساً بضرورة اللجوء إلى المرشد أو الطبيب والتواصل معهما طوعاً ودون إكراه، ولو كان ذلك من أجل تغيير أو تعديل سلوكات معينة، ناهيك عن الامراض النفسية الأكثر تعقيداً.