الكتابة هي الوسيلة الثابتة للتعبير عن الفكرة، وعندما فكر المصري في أن يسجل أحداثه كانت الطبيعة من حوله مصدر الإلهام بالنسبة له بما فيها من ظواهر طبيعية وكائنات حية، فهداه تفكيره إلى أن ينقل بعضاً مما في الطبيعة والبيئة المحيطة به ليعبر بالصورة عن المعاني التي يريد التعبير عنها، وجاءت العلامات ذات استخدام تصويري أي معبرة عن صورتها، فإذا ما رسم إنساناً فإنه يقصد التعبير عن الإنسان، وكذلك الحال بالنسبة لأعضاء جسم الإنسان، أو الحيوان وأعضائه، وكذلك الطيور والزواحف والحشرات، ثم هناك الأشجار والنباتات والجبال والبحار والأنهار.

والمتوقع أن بعض أصحاب المبادرات والذين يجود بهم الزمان في كل مكان قد التقوا ووضعوا تصوراً قابلاً للنقاش والتطور، ولابد أنهم اتفقوا على استخدام علامات معينة لتعبر عن مضمون معين، فالبومة للتعبير عن البومة نفسها، وموجة المياه للتعبير عن المياه بوجه عام سواء من حيث المصدر أو الاستخدام، واختاروا شكلا هندسيًّا معيناً للتعبير عن البيت وشكلاً آخر دائريًّا بشارعين متقاطعين للتعبير عن المدينة، والعلامة التي تمثل القلب والقصبة الهوائية للتعبير عنهما كأجزاء من جسم الإنسان. وفي كل هذه العلامات التصويرية كان لابد من استخدام شرطة رأسية أسفل العلامة في معظم الأحيان لتؤكد أن العلامة تعبر عن نفسها وتشير إلى مضمونها، أي تصور نفسها دون أن تكون لها قيمة صوتية. ولابد أن دائرة الاتفاق على الاستخدام التصويري للعلامة قد بدأت تتسع لتشمل أكثر من مكان من أرض مصر، ولعل القارئ يتساءل من أي مكان بدأ المصري يكتب؟ هل بدأت المحاولة في مكان بعينه ثم أخذت تنتقل بالتدريج إلى أماكن أخرى؟ أم أنها انطلقت من أكثر من مكان في وقت واحد؟

الأرجح والمنطقي أن تكون البداية قد جرت في مكان بعينه، وبعد التوصل إلى بعض الأساسيات أخذت الفكرة تنتقل إلى جهات أخرى لعلها قبلت ريادة المنطقة التي بدأت فيها الكتابة أو أعملت فيها فكرها.

وإذا كانت نقطة الانطلاق قد حدثت في مكان ما، فهل يمكن من خلال ما نعرفه عن تاريخ مصر القديمة وحضارتها وعن الأدوار التي لعبتها بعض المناطق والتي تمثل ثقلاً دينيًّا أو فكريًّا، هل يمكن أن نحدد أين بدأت الكتابة؟! ربما نستطيع أن نشير إلى بعض المناطق في شمال البلاد ووسطها وجنوبها ذات الثقل الفكري على امتداد التاريخ المصري القديم أوفي فترة محددة منه، فهناك مدينة العلم والثقافة والفكر الديني "هليوبوليس" – عين شمس – المطرية والتي كانت تعرف باسم "أون" مركز عبادة الشمس ومنبع نظرية هامة من نظريات تصور المصري القديم عن خلق الكون "نظرية التاسوع" ومحط أنظار الفلاسفة ورجال العلم من بلاد اليونان. وهناك مدينة منف العظيمة أقدم العواصم المصرية (حالياً ميت رهينة – مركز البدرشين – محافظة الجيزة) مركز عبادة الإله بتاح، أحد أهم الآلهة المصرية ومصدر إحدى نظريات خلق الكون. ثم هناك في مصر الوسطى في محافظة المنيا وبالتحديد قرية الأشمونين مركز ملوي. الأشمونين كانت مركزاً لعبادة الإله جحوتي إله الحكمة والمعرفة، ومنها خرجت أيضا إحدى نظريات الخلق "نظرية الثامون" ثم هناك في صعيد مصر وفي منطقة أبيدوس (العرابة المدفونة – مركز البلينا – محافظة سوهاج) حيث المركز الرئيسي لعبادة إله الخير ورب العالم الآخر "أوزير يس"، وفي سوهاج أيضا منطقة ثني (طينة) التي يظن أنها قرية البربا (مركز جرجا – محافظة سوهاج) والتي خرج منها الملك "نعمر" وأسرته لتوحيد قطري مصر. وعلى بعد حوالي 20كم شمال إدفو نجد في شرق وغرب النيل مدينتي "نخب" و"نخن" عاصمتي الجنوب قبل توحيد قطري مصر، ومركز عبادة الإلهة ذات الشأن الكبير في العقائد المصرية، الإلهة "نخبت". وعودة إلى شمال البلاد إلى قرية بوتو (إبطو– تل الفراعين – مركز دسوق – محافظة كفر الشيخ) عاصمة مصر قبل توحيد القطرين ومركز عبادة إحدى الإلهات البارزات في مصر القديمة وهي الإلهة "واجيت

ثم هناك الكثير من المواقع التي شهدت حضارات ما قبل التاريخ والتي مهدت لتاريخ مصر المكتوب مثل الفيوم وحلوان والمعادي وجرزة دير تاسا والبداري ونقادة وغيرها في أي من هذه الأماكن أو ربما في غيرها بدأت الكتابة المصرية؟ سؤال سيظل بلا إجابة محددة إلى أن تخرج لنا أرض مصر الكثير الذي لا يزال في باطنها.

ونعود للعلامات التصويرية التي أدرك المصري بمرور الوقت أنها غير كافية للتعبير عن أفكاره ونشاطاته وتصوراته للعالمين العلوي والسفلي (عالم الأحياء وعالم الموتى)، وعليه فقد أخذ المصري يطور من استخدام العلامة ليتقلص دورها التصويري بالتدريج ويبدأ دورها الصوتي لتعطي كل علامة صوتاً واحداً أو صوتين أو ثلاثة وفي حالات قليلة أربعة.