نشأة وتطور الغلو والتطرف الديني
في العالم الإسلامي

نشأ الغلو والتطرف منذ القدم ، حيث ذكر الله تعالى قصة غلو قوم نوح في صالحيهم ، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23) قال : " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد حتى هلك أولئك ونسي العلم ، عبدت " ( البخاري ، 4920/8 ) .
قال ابن تيمية رحمه الله : " وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض، يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. " ( ابن تيمية، د:ت ، جـ14 ، ص343 )
وقال ابن القيم رحمه الله " وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوماً صالحين فى قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. " ( ابن القيم ، د:ت ، جـ1 ، ص 217 )
وقد أخبر الله تعالى عن غلو اليهود والنصارى فقال في محكم التنزيل : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30)
وأما في العصر الإسلامي فقد ظهر الغلو مبكراً كما في حديث أنسَ بن مالكٍ رضيَ الله عنه قال: «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألونَ عن عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأَنهم تَقالُّوها، فقالوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غَفر اللهُ لهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وماتأخَّر. قال أحدُهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليلَ أبداً. وقال آخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساء فلا أتزوَّجُ أبداً. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتُم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وعن عبدِ الله بنِ عمرو قال: «أنكَحَني أبي امرأةً ذاتَ حَسَبٍ، فكان يتعاهَدُ كَنَّتَهُ فيسألها عن بَعلها فتقول: نِعْمَ الرجُلُ من رجل، لم يطأ لنا فِراشاً ولم يُفتِّشْ لنا كَنَفاً مُنذ أَتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الْقَنِي بِه فَلَقِيته بَعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يَومٍ. قال: وكيف تخْتم؟ قلت: كل ليلةٍ.قال: صمْ في كلِّ شهر ثلاثةً، وٱقرأ القُرآنَ في كلِّ شَهْرٍ. قالَ: قلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ من ذٰلِكَ، قالَ: صُم ثلاثةَ أيام في الجمعة. قال: قلت: أطِيقُ أكثرَ من ذلك. قال: أفطر يومَين، وصُم يوماً. قال: قلت: أطِيقُ أكثر من ذلك، قال: صُم أَفضَل الصَّوم صوْم داود، صيامَ يومٍ وإفطارَ يَومٍ، واقرأْ في كلِّ سبع ليالٍ مرَّةً. فَلَيتَني قبلتُ رُخْصةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وذاكَ أنّي كبرتُ وضَعُفت فكان يَقرأ على بعض أهله السُّبعَ من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يَعرضه من النهار ليكُونَ أَخَفَّ عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطَرَ أياماً وأحصى وصام مِثلَهُنّ، كراهيةَ أَن يَتركَ شيئاً فارقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليه». ( البخاري ، 8 / 5052 ) .
وعن ابن عباس : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ، ما شاء الله وشئت ، فقال : جعلتني لله عدلاً ؟ بل ما شاء الله وحده » ( أحمد 1 / 2565 )
ونلاحظ في الأحاديث السابقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحارب الغلو ويسارع إلى إنكاره بالتوجيه والإرشاد والحوار والدلالة إلى الخير والصواب والعمل الأفضل ، بل يحتج على المغالين بنفسه صلوات ربي وسلامه عليه فيقول " أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوجُ النساء، فمن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مني». ( البخاري ، 9/5063 ) .
وكيف لا يكون ذلك وهو قدوة الصالحين كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
والغلو والتطرف من سنة الحياة التي لا يخلو عصر من عصورها منه ، فهو ملازم للبشر ، كالصراع بين الخير والشر الذي لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، والمتأمل في قوله صلى الله عليهوسلم كما جاء عن أبي سعيدٍ رضيَ اللَّهُ عنه قال: «بُعِثَ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ، فقَسَمَهُ بين أربعةٍ وقال: أتألفُهم. فقال رجلٌ: ما عَدَلتَ. فقال: يَخرُجُ من ضِئْضىء هذا قومٌ يمرُقونَ منَ الدين».( البخاري ، 8 / 4667 ) يدرك أن التطرف والغلو من سنن الحياة التي لا بد من حصولها ، ولذا وجب التعامل مع الغلو والتطرف تعاملاً يتفق مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث السابقة كالنصيحة والبيان والتوضيح والحوار والدلالة والإرشاد والإنكار بدرجاته الثلاث والتي قد تصل إلى القتال كما أورد النسائي في سننه مرفوعاً : «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هذَا مِنْهُمْ يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الاِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ».( النسائي 2 / 3532 ) .
ومقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) هو حلقة من حلقات الغلو والتطرف في التاريخ الإسلامي ، ثم ما حصل من الفتنة والقتال بين المسلمين بعد ذلك والله المستعان .